تتضافر عوامل عديدة في عالم الأسباب اليوم لتقطع صلة الإنسان بالله ,وتستحثه ليرهن فاعليته بثنائية السبب والنتيجة بمعزل عن أي تدخل مفترض للسماء.

وفي مقدمة هذه العوامل: منهاج تربوي يختزل الدين في معارف شكلية لا تلامس شغاف القلب ولا تجلي صدأ السلوك, وثقافة معولمة تتنازعها ضروب الفلسفات والأفكار والآراء المتباينة حد التناقض, ثم إعلام يرد من حوض الشبهات والشهوات ويُوجه كل مقدراته لإسقاط الثوابت والرموز، ووضع كهذا يفرض تجديد ثقة الواقع في النص من منطلق موضوعي يستوعب الإشكالات الراهنة لا من منظور كرنفالي موسمي !

يقف المسلم أمام المحن و المصاعب والأزمات حائرا وعاجزا, تعوزه القوة أو المال أو إبداع الحلول, فلا يجد له ملاذا غير الدعاء, ففيه تتجدد أسمى معاني الذلة والافتقارإلى الله والدنو من حضرته وعظمته وكبريائه بغير واسطة.

إن مما تفرد به الإسلام هو حرية استدعاء العبد ربه عز وجل دون الحاجة إلى كاهن أو راهب أو طقوس وشعائر تزري بكرامة الإنسان وتحط من قدره. غير أن الاسترسال في العادة والمألوف أفقد هذه العبادة الجليلة بعضا من مقاصدها ومعانيها, وبتنا نعاين تطبيعا مؤلما مع سلوكيات ومظاهر مسيئة لمراد الشارع الحكيم من لزوم الدعاء والحض عليه.

إن لهذه العبادة آدابا مشروعة و شروطا مفروضة, يقول أبوبكر الطرطوشي “فمن وفى وُفي له, ومن لزم تلك السيرة على شروط الأدب أوشك نيل ما سأل, ومن أخل بالآداب استحق ثلاثة خلال : المقت والبعد والحرمان!”

أول ما نلحظه في هذا الباب هو وقوف أغلب الناس على دلالة واحدة لمعنى الاستجابة في قوله تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، ىوهي تلبية المطلب, رغم أن السنة الشريفة حددت صيغا متعددة للاستجابة تتراوح بين تعجيل العطاء أو ادخاره في الآخرة أو رفع ما يماثله من البلاء. وقصر معاني الاستجابة على مدلول واحد قد يوهن عزيمة المسلم في الإلحاح و تكرار المسألة, بل قد يفضي به إلى التحلل من شروط وآداب الدعاء كإخلاص النية وإظهار التضرع والمسكنة فتصبح الأدعية جملا مكرورة تجري على اللسان دون فهم لفحواها. لذا يستدعي الأمر وقوفا على بعض هذي المعاني الواردة في تصانيف أئمة العلم من مفسرين ومحدثين.

للإمام الحافظ أبي سليمان الخطابي أحد أئمة وأعلام القرن الرابع الهجري تصنيف فريد في بابه يجيب عن تساؤلات عديدة في أمر الدعاء والقضاء, ويفسر فيه ما أشكل من ألفاظ الأدعية النبوية التي جمعها الإمام ابن خزيمة في هذا التصنيف المعنون بـ(شأن الدعاء)، يكشف الخطابي معاني الاستجابة قائلا:” إنما يُستجاب من الدعاء ما وافق القضاء. ومعلوم أنه لا تظهر لكل داع استجابة دعائه, فعلمت أنه إنما جاء في نوع خاص منه بصفة معلومة. وقد قيل:معنى الاستجابة أن الداعي يُعوض من دعائه عوضا ما, فربما كان ذلك إسعافا بطلبته التي دعا لها, وذلك إذا وافق القضاء, فإن لم يساعده القضاء فإنه يُعطى سكينة في نفسه, وانشراحا في صدره, وصبرا يسهل معه احتمال ثقل الواردات عليه. وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه وهو نوع من الاستجابة “. وقد يكون تأخير الاستجابة خيرا للداعي من التعجيل لأن الله تعالى أعلم بمصالح عباده, فإذا لم ير المرء أثرا للإجابة فليصحح التوبة من ذنوبه, وليدع ولا يمل من الدعاء, فربما تجلت المصلحة, برأي ابن الجوزي في (صيد الخاطر),في تأخير الإجابة, وربما لم تكن المصلحة في الإجابة, فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك. ومن منافعك أن لا تُعطى ما طلبت بل تُعوض غيره! أما وسوسة الشيطان في هذا الموقف فيصرفها اليقين بحصول المطلوب من الدعاء وهو التعبد والتذلل.

ومن الظواهر المؤلمة التي تنحرف بالدعاء عن مقصده الأسنى ما نعاينه اليوم في بعض الولائم وجل المآتم من إقبال متزايد على الدعاء “المؤدى عنه “, فيتلو القارئ آيات من القرآن وأدعية فيها من تكلف السجع وصنعة الكلام ما أفتى السلف بكراهته لقاء مبلغ من المال, وكلما زاد المبلغ حظي الميت أو المريض أو صاحب الحاجة بقائمة من الأدعية المنتقاة سجعا وتطريبا. أما التساؤل عن شرعية هذا السلوك فيرده أهل هذه الصنعة باستدلال خاطئ أو قياس باطل!

إن المضطر والمظلوم وصاحب الحاجة أولى من غيره بالدعاء لتفريج كربه وقضاء حاجته, وذلك لما يقتضيه الدعاء من إخلاص نية وتضرع وإظهار للمسكنة مما لا يمكن لغيره اصطناعه. ذُكر أن العابدة الصالحة رابعة العدوية خرجت إلى المقبرة فاستقبلها رجل قائلا: ادعي لي, فقالت: يرحمك الله, أطع الله وادعه, فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. وقد يُلتمس الدعاء عند من يُرجى صفاء سريرته, كما كان دأب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يأخذ بيد الصبي فيجيء به فيقول: ادع لي, فإنك لم تذنب بعد!

ويخصص الإمام يوسف بن عبد الهادي المتوفى عام909هـ في مصنفه الشهير (أدب المرتعى في علم الدعا) فصلا خاصا بمن يُستجاب دعاؤهم سدا لذريعة التعلق بفئة مخصوصة. يقول رحمه الله ” والذين يستجاب دعاؤهم هم المضطر, والمظلوم قيل: ولو كان فاجرا أو كافرا, والوالد, والإمام العادل, والرجل الصائم, والولد البار لوالديه, والمسافر, والصائم حين يفطر, والمسلم لأخيه بظهر الغيب, والمسلم ما لم يدع بظلم أو قطيعة رحم, ولكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة”.

وتحت ضغط المادة وثقل أعباء الحياة يلجأ المسلم إلى ربه طلبا لتيسير أمرالمعاش,وتوفير أسباب الحياة الكريمة التي تقيه حرج سؤال الغير, أوالوقوع في الشبهات واقتراف المعاصي. وهذا أمر لا غبار عليه, فالرسول صلى الله عليه وسلم يحض أمته, في الحديث المروي عن أنس بن مالك أن يسألوا الله حاجتهم كلها, حتى شسع النعل إذا انقطع.

واستجاب الرعيل الأول لهذا التوجيه المحمود فكان منهم من يرفع كفيه إلى المولى سبحانه سائلا ملح العجين أو علف الشاة! لكن المسلم مأمور كذلك بالوقوف عند حد الاعتدال بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة, فلا يصرف كل همه في الدعاء لالتماس فضول العيش. وكعادة السلف في إنصاتهم لنبض المجتمع, وحرصهم على رتق كل فجوة تلوح بين النص والواقع فإن مصنفاتهم لم تخل من إشارة لهذه الثلمة في فحوى الدعاء.يقول الإمام ابن القيم في (الفوائد) “العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له, ولايتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمعصيته. نفس الاعتراض يبديه الإمام ابن الجوزي في (صيد الخاطر) محتجا لاستحواذ المراد على الزلة.”ثم العجب من سؤالاتك, فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا, بل فضول العيش. ولاتسأل صلاح القلب والدين مثلما تسأل صلاح الدنيا. فاعقل أمرك فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جرف, وليكن حزنك على زلاتك شاغلا لك عن مراداتك”.

إن التلازم بين العبودية والدعاء يفرض تخليصه من الآفات التي تلحقه جراء وسوسة أو اتباع للهوى أو انحراف في فهم المقصد. وكون التواصل بين العبد وربه قائما دون وسيط لا يعني البتة أن يتحرر المسلم من آداب الدعاء وشروطه, أو يتصرف بسوء أدب في المقام الذي يرتجي فيه جلب الرحمة ودفع النقمة.

لقد أفاض السلف في عرض نماذج من الاعتداء في الدعاء وتجاوز الحد الشرعي.ولعل الخطاب الديني اليوم في مسيس الحاجة إلى الوقوف الرصين على جذور المشكلة للحؤول دون استمرارية الوضع المفارق بين النص .. والواقع!

https://soundcloud.com/iolnet-iol/texhkze81g6w