يقول قائلٌ: لطالما سمعت أبياتاً من الشعر حتى الملل بكافة ألوانه وأشكاله عَجره وبَجره من الفصيح الجاهليّ مروراً بالحديث والنبطيّ، ولكنت هاوياً في ارتجال شعر الزجل والعتابا والقصيد والأغاني الشعبية وآنست اللغة العربية وآنستني من نعومة أظافري، ومع كل هذا كنت أشعر بنقصٍ في عربيّتي، في لغتي، في انتشائي، كالسكران المُصطَنعِ للسكر، وما زلت أشعر بنقص في الانتشاء، نقص في الصّبابة، ولعمري فقد كنت أقرأ وأحفظ القرآن، لكن من دون فهم أو تدبر.

وهنا يطرح السؤال ماذا لو وعى الشباب معاني القرآن العظيمة؟

إنّ الشباب المثقف يرغب مما سبق باللون الشجيّ العظيم، فكيف لا وهو يعدُّ نفسه مستمعاً جيداً وقارئاً جهبذاً، بل ويطرب من الغزل والمديح والذم والفخر، ويسمع الأغانيّ جميلها وقبيحها، ويحفظها لمجرد سماع اللحن، ويبحث في معانيها ليجد ما يبحث عنه وما يلائم نمط حياته منها، فمنهم العاشق ومنهم الخائف ومنهم الممتعض ومنهم البائس ومنهم الشاكي، فلو تمعن الباحث كل ما سبق في كلام ربي – جلّ وعلا – لوجد ما يصبو إليه من جميل القول وكماله، ومن عظيم المعنى ووقوعه في القلب ومن رصانة الكلام واختلاطه بالروح من حيث آيات الاحكام وآيات الترغيب والترهيب وأوصاف الجنة والنار وجزاء المؤمنين وعقاب الكافرين، فتلك أحداثٌ تقشعرُّ لها الأبدان وتسبى بها العقول وتجول في رحابها الأفكار، فكيف لا والفرق بين كلام ربي وأيّ كلامٍ آخرٍ كالفرق بين الثرى والثريا كالفرق بين النحاس والذهب . . تبارك الله -عزَّ وجل-

يا باحثا عن الجواهر

تحققت معجزة عصا موسى فإذا هي حية تسعى لكثرة ما كان من السحر في زمان قومه وإفحاماً لهم، وكانت المعجزات على سيدنا عيسى كإحياء الموتى تحدياً لمن كان في ذلك الزمان من الأطباء والحكماء، وكما هو معلومٌ أيضاً نزل القرآن الكريم على قرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم تحدياً لعباقرةِ الشعر والأدب في ذلك الحين.

أشعار العظماء:

•قضَّ الشعر الجاهليّ مضاجع الأدباء وانتشى بسماعه العقلاء فهنالك بحرٌ من المعلقات ولعلَّ أفضلها، لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب لعنترة:

والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي والطعن والضرب والأقلام والكتب

•حملت القوافل الإسلامية الغالي والنفيس من الأشعار فتنقلت في البلاد رياحين الشعر ورُطَبُ القول من حكمٍ وأمثالٍ ومعانٍ وكلماتٍ ولعلَّ أفضلها، أغرَّ عليه للنبوة خاتم لحسان بن ثابت شاعر الرسول:

 فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً يلوح كما لاح الصّقيل المهنّدُ

•برع الشعراء في شعر الغزل المستور منه والمفضوح وخصوصاً في عهود الاستقرار والازدهار وعانا شبابنا الكثير من الهمِّ والغمَّ انبهاراً وتعجباً من هذه الأشعار ولعلَّ أفضلها، عيون المها لعلي بن الجهم:

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

•وكان للخطباء لفتة فريدة في رصِّ صفوف الكلمات سجعاً أو نثراً ولازالت إلى يومنا هذا تُفتَتَحُ بها الندوات والجلسات واللطائف من القول ولعلَّ أفضلها، الخطبة المشهورة للحجاج:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني

أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله و أحذوه بنعله و أجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى وانى دعوت الله ان يبلوكم بي فاستجاب . . . إلى أخر الخطبة المشهورة.

نجد من السابق ما يَلِجُ في عقل المهتم فيُسكرهُ، وما يدخلُ في القلب فينتشيهِ، وما تذوبُ به الروحُ – ولله المثل الأعلى – وليس من باب المقارنة أن يقارن كلام ربي بالكلام السابق حاشا وكلّا، ولكن لما يطلبه الموقف، فالقول بما أنزله الله تبارك وتعالى على سيد الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فما هو إلا من أعظم الكلام وأقدره وأبلغه، فإن كان ما يمدح به الشاعر نفسه وحاله وشجاعته وكرمه ونبله في وصفه نفسه من أعظم الشعر – ولله المثل أعلى – فعندما نسأل ما هو أعظم الكلام في القرآن الكريم ؟ سيكون طبعا هو الكلام الذي وصف به ربُّ العزَّةِ نفسه، وبإجماع أهل العلم وكما أخبرت الأحاديث الشريفة ألا وهي آية الكرسيّ، فتبدأ الآية الكريمة بوصف ذو الجلال والاكرام نفسه وقوته وبطشه وعظمته ملك الملوك، ربي – تبارك وتعالى – فروي عن محمد بن الحنفية أنه قال:  لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ خَرَّ كُلُّ صَنَمٍ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ خَرَّ كُلُّ مَلِكٍ في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وَهَرَبَتِ الشَّيَاطِينُ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَى أَنْ أَتَوْا إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ قَدْ نَزَلَتْ.

وكفى بهذا الشاهد رهبةً ومخافةً من قدرة الله – عز وجل – فلا يعلم بعظيم معانيها وقدرها إلّا كلُّ ذي لُبٍّ، وكلُّ ذي قلبٍ، ولا عجب أن تَمرَّ مرور الكرام على كلِّ إنسانٍ يقرأ ولا يتدبّر، فهذه الأصنام خرَّت، وأما قلوب البعض ما زالت ولا تزال في حال يرثى لها هدانا وهداهم الله.

آية الكرسي

دعونا نتمعن في هذه الآية أوما يشابهها من آياتٍ في وصف ربِّ العزَّةِ والجلالةِ نفسه والتي يُتداوى بها من الأسقام والأوجاع، بل ويسترقى بها، فيقول ربي: “الله لا إله إلا هو الحي القيوم” وهو اسم الله الأعظم كما ورد، فهل يجرؤ أحدٌ من الملوك والعظماء والحكّام أن ينادي نفسه بهذا الاسم إلا وقسمه الله، “لا تأخذه سنة ولا نوم” هل يكون الإله إلهاً إذا نام! فالنوم دليلٌ على التعب والإرهاق، أفإن نام الإله هل نقول عنه إله حاشا وكلّا فربي لا ينامُ وهو الحيُّ القيوم.

هل تقارن هذه الآيات بالمعلقات والأشعار والخطب والكلمات والجمل؟ فهذا ثريا وذاك ثرى وشتان شتان،

فليتفكرْ مدعي العلم، وليتأملْ مدعي الفقه، وليستبصرْ الملحدون والجاحدون والكافرون والفسَّاق والفجَّار.

في كلِّ قراءة جوهرة

اسألوا الحفَّاظ والقرّاء والعلماء، ألا يجدون في كلِّ ختمةٍ يختمون بها في القرآن الكريم جواهراً ولآلئاً وكنوزاً جديدةً؟ من لاحظ هذا الأمر مننا نحن الشباب الذين نقرأ القرآن فقط في رمضان؟ ففي كلِّ رمضانٍ نختم، وفي رمضان التالي نختم، فنجد ما هو جديدٌ وكأننا نقرؤه للمرة الأولى ما هذا السر العجيب؟ هل من فطحلٍ في الأدب أو كاتبٍ كبيرٍ أو هل من جُذيلٍ مُحككٍ وعُذيقٍ مُرجبٍ في الأدب، أن يعيد قراءة أعظم معلقةٍ في التاريخ 10 مراتٍ ويستخرج لنا ما هو جديدٌ؟ كلّا. .

هل يوجد كتب أدبية نفيسة يعاد قراءتها عشرات المرات مثل القرآن الكريم؟ كلّا . . .

هل يوجد كتبٌ يؤجر المسلم على قراءتها كمثل أجر القرآن الكريم؟ كلّا . . .

تفاهات ما يسمعه الشباب

كان السلف الصالح لا يَعدُّون الرجل رجلاً حتى يحفظ القرآن والسنّة.

أسأل نفسي على الدوام مع حفظيّ اليسير للقرآن الكريم ومعرفتي البسيطة جداً بالسنّة مع التقصير – غفر الله لنا جميعا – هل سيحسبني السلف الصالح رجلاً لو علم خبري أو خبر شباب هذه الأمة!؟

ثكلتنا أمّهاتها. . .

– إلا من رحم ربي – وبعيداً عن التعميم، وكما قيل الإنصاف حُلَّةُ الأشراف، يوجد اليسير من شباب أمتنا على النهج، ولكن طالما وُجدَتِ الخلافات الجوهريّة والفكريّة والعقائديّة، فيقع اللوم على الجميع بلا استثناءٍ.

أقرأُ وأطلعُ في حال السلف الصالح مع كتاب الله – عزَّ وجلَّ – فأجد أنّ حالهم كانت كحالنا هذه الأيام تماماً مع الهاتف المحمول، وإن بحثنا عن الحلِّ وكيف يجب أن تكون حالنا كحالهم؟ يجب علينا أن نستبدل ساعات استخدامنا للهاتف المحمول بقراءة القرآن الكريم، فساعةٌ للحفظ وساعةٌ للقراءة وساعةٌ للتفسير وساعةٌ للاستماع، مع الإصرار والتحدي للشيطان وأذنابه وإن كانت الاستمرارية يسيرةٌ فلا ضير، ومن بعد التوفيق من الله والإلحاح بالدعاء، سيجد الشابُّ المسلم انَّ القرآن قد شقَّ قلبه ودخل عليه من دون استئذانٍ ولا دستورٍ.

وكفى دليلاً لنعلم ماهي التفاهات التي يشاهدها شباب هذه الأيام على اليوتيوب والتي كتوك وغيرها من برامج الفسق والفجور، أن ملايين المشاهدات تكون على تفاهاتِ وسفالاتِ المقاطع، بينما محاضرات العلم والدين والفقه في حالٍ يرثى لها من المشاهدات.

يَسرُّني ويُؤسفني

يَسرُّني مشاهدة حُفَّاظ القرآن الكريم في كل مكانٍ من أنحاء العالم، فالحُفَّاظ أصبحوا ألوفاً مؤلفةً.

ويؤسفني أنَّ هذه الألوف المؤلفة لا تعمل بالقرآن الكريم.

ففي هذا العالم المسخ يُسمح للمسلم بحفظ القرآن فقط، ولا يسمح له بالعمل به وهذه حقيقةٌ وإن خالف أحدٌ هذه الحقيقة وحاول ترقيعها او تجميلها، فهو من طغاة هذا العالم المسخ شاء من شاء وأبى من أبى.

وهنا، ماذا لو وعى الشباب معاني القرآن العظيمة؟