ثلاث سنوات إلا قليلا مرت على الانقلاب العسكري على التجربة الديمقراطية المصرية، وعلى ارادة الجماهير الحرة في اختيار من يمثلهم لأول مرة، مرت كأنها ثلاثين سنة. الناس فيها تائهون، لا يعرفون لليلهم صبحا، ولا لطريقهم نهاية، ولا لوطنهم نهضة، ولا لشعبه كرامة. تكاثرت الأزمات، فلا تكاد تمر ساعة حتي تكون شراً عن سابقاتها بما تحمله. وأصبح الوطن يأن تحت بيادة العسكر، ويصرخ ولكن لا مجيب.
لقد ناديت لو أسمعت حياً. . ولكن لا حياة لمن تنادي.
أصبح الوطن يسير مسرعاً نحو الهاوية، وليس هناك سوى حفنة من الثوار قليل عددهم يقفون وحدهم للحيلولة دون السقوط. خلا بهم الجميع، حتي شركاء الأمس.
تبلد في الناس حس الكفاح. .. ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي . .. سدور الأمين وعزم المريب.
والحال يدعونا إلى سرعة التحرك، والذي يبدأ أول ما يبدأ من داخلنا ؛ بتغيير أنفسنا لنكون بحق أهلا لنصرة الله، فإن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أشكالنا، وإنما ينظر إلى قلوبنا، وأعمالنا، ولن يتغير الخارج إلا إذا تغير الداخل “﴿.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مرد له ومالهم من دونه من والٍ ﴾ الرعد:11.
وكان أبو الدرداء يوصي المسلمين قبل الغزو: ” أيها الناس عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم ” ولكل طريق بداية ونهاية، وعلى سالكيه إذا أرادوا أن يصلوا إلى النهاية المرجوة في تحرير الوطن، وحرية المواطنين، ونهضة الأمة وعزتها، فعليهم أن يسلكوا البداية الصحيحة؛ من داخلنا أولاً “أقيموا دولة الاسلام في قلوبكم تقم على أرضكم ” لا بد من أن نكون أصحاب هم، وأرباب قضية، لا مشاهدين، ومتابعين فقط تحت أي سبب، يجب أن نكون الأم الثكلى، لا الأم المستأجرة للبكاء مقابل ثمن لدموعها.
ولما سئل الحسن البصري رحمه الله: ” ما بالنا نعظ الناس فتبكيهم وأنت تعظ الناس فتبكي ؟ فقال: ” ليست النائحة كالثكلى” وشتان بين الاثنتين.
وهذا رسول الله – صلى الله علىه وسلم – يحاصر وأهله مع قومه في شعب أبي طالب لثلاث سنوات، يحس بإحساسهم ويتوجع لصغارهم. وكم أحزنه نفوس فلتت منه إلى النار، وكم آلمه فقدان صحابته الأبرار، ويوم أحد وقف وحده يدافع حتى شُج في رأسه وسال الدم الطاهر منه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجهه بأبي هو وأمي.
وهذا صلاح الدين يحرم على نفسه اللهو والضحك حياء من ربه، والمسجد الأقصى أسير بيد الصليبيين، حتى حرره. وحسن البنا يذهب صراخ أبناء إخوانه المعتقلين عنه النوم والراحة حتي يخرج لهم آبائهم كما قال. وكان يصف حاله ومعه اخوانه : “ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليإلى كُنَّا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إلىه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلِّل ونعلِّل الأدواء، ونفكِّر بالعلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثُّر لما وصلنا إلىه إلى حد البكاء”.
وبدون اتباع البداية السليمة لن نصل إلى النهاية السليمة، لنكن صرحاء فلم تعد تنفع إلا الصراحة : إن لم نحيا حياة الجد، والقلب المجروح، والأم الثكلى التي فقدت ولدها فلن نبرح أماكننا، ونكون كمن يحرث في البحر أو يقاتل بغيرعدو. والقطيع السائب لابد أن تفترسه الذئاب.
إن لم يُذهب صراخ أبناء خمسين ألف معتقل النوم من عيوننا، وأنين آبائهم داخل السجون يُحرم علىنا الضحك ملء أفواهنا فلن يتغير شيء.
إن لم ندع حياة الدعة والراحة وكثرة النوم حتي الظهيرة، والانشغال بمتابعة مباريات الكرة التي يفني العمر في متابعتها، والجدال بعدها فلن يتغير شيء.
إن لم نحافظ على صلاة الجماعة، ونقوم لصلاة الفجر خاشعين، ونداوم على النوافل نتقرب بها إلى الله، وتتجافي جنوبنا عن المضاجع ندعو ربنا في جوف الليل خوفاً وطمعاً فلن يتغير شيء.
إن لم نهتم بإخواننا المعتقلين، ونسأل عنهم باستمرار، ونتحسس أخبارهم، وأخبار أهلهم وأولادهم، فنفرح لفرحهم، ونحزن لحزنهم فلن يتغير شيء.
إن لم تقف أنت وأهلك وأولادك في ظلمات الليل تناجي ربك ساجدين له خاشعين، رافعين أكف الضراعة بأن يخفف عنهم ظلمة السجن فلن يتغير شيء.
إن لم تتعجب ابنتك من طول حزنك وكثرة كلامك عن وطنك وما صار إلىه، وإخوانك وما وصلوا إلىه، فتخبرها بهمك وأن بناتاً لم يرون آبائهن من سنوات، ولم يستطيع الآباء ضمهن إلىهم فلن يتغير شيء.
إن خفت على نفسك، واستجبت لزوجك، ولمع الدرهم والريال في عينيك فجذبوك للقعود، وآثرت السلامة، حتي سلم منك الفيس من التعلىق والمتابعة، وتركت وطنك، واخوانك يُلاقون مصيرهم وحدهم، دون مشاركتهم فسيلحقك العار، ولن يتغير شيء.
إن لم تتقاسم رغيفك مع أبناء المعتقلين، وتجعل لهم من راتبك نصيبا مفروضاً فلن يتغير شيء.
إن شغلك الفيس بالفارغ عن الممتلئ، وبالقشر عن اللب، وبالزهيد من الاشياء عن الثمين، فضيعت وقتك وجهدك فيما يضر ولا ينفع وتركت قضايا وطنك واخوانك فلن يتغير شيء.
إن أوجعتك كما تدعي مناظر أهل سوريا، وإلىمن، وما وصلت له مصر، وحال أهلها، فمللت من متابعة أخبارهم بحجة أن قلبك ضعيف ولم يعد يتحمل، فغيرت قناة الجزيرة إلى قنوات الأفلام والرياضة فقد ضللت الطريق، ولن يتغير شيء.
إذا أصبحت فقط ناقداً لكل القنوات الفضائية المدافعة عن الشرعية، وتكلمت عن مقدمي برامجها باللمز والغمز، ولم تقدم أنت شيئاً سوى الكلام فلن يتغير شيء.
إذا تكاسلت عن القراءة والتحليل وجمع الأخبار، وكنت المحلل الثقة والصحفي البارع بهاتفك والناقل والناشر للحقيقة، وصاحب الرأي والكلمة، والمدافع عن الحق، كنت بطالا ولن يتغير شيء.
إذا لم تستخدم مواهبك: رسم، كاريكاتير، تمثيل، مقال، تحليل، تعلىق، نشر، عظة، زيادة وعي، انشاء موقع انترنت، توثيق، جمع معلومات، صور، مراسلة جهات حقوقية، متابعة أهإلى المعتقلين، البحث عن المخطوفين، زيارة أهإلى المسجونين، تبرع. ……فلن نسمع إلا همسا، ولن يتغير شيء.
إذا هجرت القرآن ولم يكن لك ورد يومي تحافظ علىه، وتركت المأثورات وظيفتها الكبرى كل صباح ومساء، ونسيت الدعاء بظهر الغيب لإخوان لك غيبهم السجن فلن يتغير شيء.
هذه هي بداية الطريق أيها السائرون، إذا كنتم فعلا صادقين وجادين في الخلاص والتحرير، وإلا فلن تكون سوى الأماني، والتي هي رأس مال الحمقى كما قال سيدنا على، وسيظل الانقلاب جاثم على صدر الوطن، وسيظل عشرات الالاف من المعتقلين يدفعون الثمن وحدهم. وسيسألنا الله سبحانه عن كل هؤلاء ماذا فعلنا لهم، وسوف يكون الحساب عسيراً
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
والله من وراء القصد، وعلى الله قصد السبيل