قال ابن عثيمين (رحمه الله): ( السكينة تنزل عند قراءة القرآن إذا قرأه الإنسان بتمهل  وتدبر  فإن السكينة تنزل حتى تصل إلى قلب القارئ فينزل الله السكينة في قلبه.) (1)  

وقد أخبر الله حال المؤمنين عند قراءة القرآن؛ أنهم؛ { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }  الزمر: ٢٣ { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} فتطمئن نفوسهم وتهدأ خواطرهم وتسكن وتنشرح صدورهم.

وقال عن حالهم عند ذكر الله؛ { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } الرعد: ٢٨

وأنهم؛ { إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الأنفال: ٢

أي: خافت من عذاب ربها، وتهيبت لقاء الموقف يوم لقاءه، وأهوال ما بعد الموت مما في القبر وقيام الساعة والحساب والميزان والصراط… فكان ذلك أنشط لهم في العبادة، والاستعداد ليوم الرحيل.

وأنهم؛  { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال: ٢ عندما تتلى عليهم آياته ويقرؤونها يرتفع لديهم الإيمان ويرسخ مدلوله في قلوبهم، ويزدادون شوقا للمزيد من قراءة وسماع وتدبر كلام ربهم، وأنهم من أوصافهم ؛ (وعلى ربهم يتوكلون )، يُفوضون أمرهم كلَّه له، ويعتمدون عليه في قليل أمرهم وكثيره، ليقينهم أنه هو وحده المدبر لهذا الكون ومافيه ولا يحصل فيه شيء إلا بإذنه وعلمه وحكمته، وأنه على كل شيء قدير، ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله.(سبحانه)

وأنهم؛ { إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءامنا فاكتبنا مع الشهدين } المائدة: ٨٣ تغرورق عيونهم وتفيض من الدمع خشية وإجلالا وتعظيما ومهابة لمولاهم، فالكلام كلامه والوعد وعيده بالعذاب إن قصر العبد، والضمان ضمانه بالجنة إن هو أطاع مولاه، ومن أصدق من الله قيلا.

وما أجمل دمعات تتساقط على وجنتيك خشية لمولاك، إنها عند الله عظيمة، وقد ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لاظلّ إلا ظلّه (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) (2)

فلا غرو أن تطمئن نفوس السلف الصالح وتسكن خواطرهم وتتنزل السكينة والملائكة عند قراءتهم له، إنه الشوق لكلام الحبيب، والشوق لصفات الحبيب والتعرف عليها والتلذذ بسماع لذيذ خطابه وما أعده لأحبابه وأوليائه.

روى البخاري ومسلم عن أُسَيْد بن حُضَيْر، قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفَرَسُه مربوطٌ عنده، إِذْ جَالَت الفَرَس، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فَقَرَأَ فجَالت الفَرسُ، فَسَكَتَ فسَكَنَتْ الفَرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها فأَشْفَقَ أن تُصِيبَه، فلما اجْتَرَّه (3) رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حَدَّثَ النَّبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: اقرأ يا ابن حُضَيْر، اقرأ يا ابن حُضَيْر قال: فأشْفَقْتُ يا رسول الله، أَنْ تَطَأَ يَحيى، وكان منها قريباً، فرفعتُ رأسي فانصرفتُ إليه ( يعني ولده)، فرفعتُ رأسي إلى السماء فإذا مِثلُ الظُلَّة فيها أمَثَالُ المصَابِيْح، فخرجتُ حتى لا أراها. قال: وتدري ما ذاك؟  قال: لا. قال:  تلك الملائكة دَنَتْ لِصَوتِك، ولو قَرَأتَ لأصبَحَتْ ينظرُ الناسُ إليها، لا تَتَوَارى مِنْهُم).  (4)

 وذكر ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري قوله ( وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس في سورة البقرة أيضا، وأخرج أبو داود من طريق مرسلة قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تر ثابت بن قيس لم تَزَلْ داره البَارحة تُزْهِر بمصَابيح؟ قال: فلعلَّه قرأ سورة البقرة، فسُئِل، فقال: قرأتُ سورة البقرة ) (5)

وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، يَقُولُ: قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ، وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ، أَوْ سَحَابَةٌ قَدْ غَشِيَتْهُ، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: “اقْرَأْ فُلانُ، فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ” (6)

وذكر ابن حجر ( قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح، لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلا والحسن الصوت، قال : (أي النووي) وفيه فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت: (أي ابن حجر) الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية مالم يذكر، وإلا لو كان على الإطلاق  لحصل ذلك لكل قارئي)( 7) انتهى.

وهذا الفضل أعني تَنَزُّل السَّكينة والملائكة لسماع القرآن في سماع قراءة سورة الكهف، وجاء في سماع سورة البقرة وقراءتها في آخر الليل، وهذه المنقبة للصحابي أسيد (رضي الله عنه)  حيث رأى الملائكة كالمصابيح المضيئة وهي تعرج للسماء حتى اختفت، قلت: وقد حصل هذا لوالدتي (رحمها الله) تقريبا في عام(1380هـ ) وكنا في مزرعتنا في محافظة الأفلاج وليس إلا الظلام الدامس، حيث لاتوجد كهرباء، وفي ليلة من ليالي رمضان المبارك، قالت: وهي تقص الخبر على أخي الأكبر (تميم) (رحمه الله) رأيت البارحة أمثال المصابيح المضيئة، أنوارا تنزل إلى الأرض ثم تصعد إلى السماء، قال لها أخي: ألم تخبرينا لنجتهد في العبادة، إنها ليلة القدر.)

فأي فضل للعبد عندما تَتَنَزَّل الملائكة لاستماع قراءته، ثم مع تَنَزّلها تَنْزِل السَّكِينة، وقال عنها النووي (رحمه الله) (السكينة: المختار أنها شيء من المخلوقات فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة) (8)

وذكر ابن حجر (رحمه الله): ( وفيه منقبة لأسيد ابن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير، فكيف لو كان بغير الأمر المباح)(9) انتهى كلامه.

 قلت: لاسيما وقت تنزل الرب عز وجل في آخر الليل وهو ينادي عباده ليغفر لهم ويجيب دعواتهم.!!

همسة

هذه ميزة خاصة بسورة البقرة وقراءتها كما جاء في الحديث والنص الصريح في قيام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقراءتها في صلاة الليل، وحديث أُسيد (رضي الله عنه)، فلو لم يكن إلا أن الملائكة تَتَنَزَّل لسماع صوتك وأنت تقرأها في جوف الليل وظلمته وحنادسه، وقد اختفت عنك الأنظار من البشر، حيث لايراك إلا مولاك، ولا يسمعك إلا حبيبك وطبيبك، لتتنزل السكينة والطمأنينة على قلبك، فيرحل خوفك واضطرابك… ولتُضِيئ لك قبرا مُوحِشا، كُلُّنا سَاكِنُه، وتُوسِع لك فيه ضِيقًا، كلُّنا ذائِقُه، وتَشْفع لك وتحاج عنك عند ربك يوم تلقاه، لكفى.

وليكن هذا الكتاب هو أنيسك وقرينك وحبيبك تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فإن فعلت؛ فُزْتَ بالسكينة والطمأنينة والرضى من رب كريم ، قال تعالى : { فاذكروني أذكركم } البقرة: ١٥٢ ومن ذكره الله فأيُّ منزلة هي منزلته.