الإسراء والمعراج معجزة عظيمة وحادثة كبيرة جاءت تكريما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مشوار طويل من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وبعد معاناة كبيرة من أذى قريش وبطشهم.

بدأت معجزة الإسراء والمعراج –والتي تعتبر تكريما وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم– بعد أشد عام قسوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو عام الحزن، هذا العام الذي فقد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته خديجة –رضي الله عنها- والتي كانت نعم المعين والسند والرفيق على مشوار الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد كانت مَكمنُ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعينه بمالها وحكمتها ورأيها السديد، وفي نفس العام توفي أبو طالب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي كان سداً منيعاً وحصناً متيناً في وجه قريش، فرغم كفره إلا أنه كان يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدافع عنه، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حقه “ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب”، فاستحق هذا العام بهذا الأسى والعناء أن يكون عام حزنٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد أن انقطعت الأسباب وقل الناصر والمعين وكثر أعداء الإسلام وخشي رسول الله على دعوته، أخذ بالبحث عن قوة أرضية وأسباب بشرية لنصرة دين الله عز وجل والدفاع عنه، فسار على قدميه إلى الطائف مسيرة ما يقارب (80) كم بخطىً يحذوها الأمل وتحوطها الثقة بالله تعالى أن يخرج الله من بين ظهرانيهم فئة مسلمة وثلة مؤمنة تكون له خير رفيق على طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لكن النتيجة كانت مفاجئة فأهل الطائف لم يكرموا ضيفهم ولم يحسنوا وفادته بل أساءوا له بكل إمكانياتهم وبجميع حقدهم فقد طردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأردفوا خلفه الصبية الصغار الذين رموه بالحجارة حتى أَدمَو قدميه الشريفتين.

وهنا أغلقت الدنيا في وجه حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فجلس وهو في طريق العودة من الطائف إلى مكة تحت ظل شجرة يبث شكواه إلى الله تعالى طالباً منه النصر والعون بكلمات ملؤها اليقين والثقة بنصر الله سبحانه وتعالى قائلاً: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وانت ربّي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علىِّ غضبُُ فلا أبالي، ولكنَّ عافَيَتَك أوسعُ لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخر ه من أن تُنزل بي غضبك أو يَحِلَّ علىَّ سخطُك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”. المعجم الكبير للطبراني.

وهنا أذن الله بالكرم والفرج لرسولٍ صبر واحتسب ودعا الله بصدق وردّ مَلك الجبلين الذي قال له بعد كل هذا العناء: “إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا”. رواه مسلم.

وهنا بدأت رحلة التكريم ومشوار التمكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق بروحه وجسده برحلة ربانية ومعجزة سماوية خارقةٍ لكل نواميس الطبيعة ومخالفة لكل القوانين البشرية لينتقل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عبر دابّة البراق من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم يُعرج به إلى السماء ويعود إلى بيته في ليلة واحدة، وهذه المعجزة بكافة تفاصيلها صعبة التصديق على أمة كفرت بالله وبرسوله وأنكرت الحق واستوطن الباطل في قلبها، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخون الأمانة ولا يكتم السّر، فقد وقف أما جحافل قريش وحيداً أعزل لكنه قوي متين بثقته بالله تعالى ليقص عليهم الخبر وينبئهم بكامل التفاصيل، لينقسم القوم إلى فريقين: فريق مؤمن مصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر جاحد للحقيقة كافرا بالله سبحانه وتعالى.

والدروس والعبر من حادثة الإسراء والمعراج كثيرة عديدة ففي كل موقف درس وفي كل كلمة من رسول الله قصة وعبرة ومن أهم الدروس المستفادة من هذه الرحلة العظيمة:

أولاً: العبودية لله مقام رفيع وشرف عظيم.

لقد كرّم الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ورفع قدره وجعله خير البشرية وإمام البرية، وخاطبه في كتابه الكريم خطاب تكريم وتشريف ليس باسمه المجرد بل بلفظ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) و ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ ولم يُذكر باسمه إلا في أربع مواضع في القرآن الكريم وقد جاءت بصيغة الإخبار لا الإنشاء، كقوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 29]، وقوله: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6] لكن سياق الآيات في رحلة الإسراء والمعراج أتت بوصف النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ الإسراء: 1

وحكمة ذلك -والله اعلم- أنَّ الله تعالى أراد أن يخبرنا أن الإنسان الذي أسري به هو بشرٌ مثلُكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وليثبت لنا أن العبوديةَ لله هي أسمى المراتب وأعلى المقامات التي يصلُ إليها الإنسان.. فالعبوديةُ لله عزّةٌ ورفعة، وعطاء وإكرام، ومرتبة سامية لا ينالها إلا من وفق لطاعة الله وفاز برضوانه، قال أبو حيان: (لو كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – اسمٌ أشرف منه لسماه به في تلك الحالة).

وهذا درس لنا بأن نتشرف بالانتساب إلى دين الله واتباع شرعه والسير على منهاجه دون خوف أو حياء بل بعزة وكبرياء وشموخ ملؤه الثقة بأن دين الله غالب وأن شرعه القويم منتصر وأن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون.

فالعبودية لله شرف عظيم والسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وسام تكريم يتميز به عباد الله المخلصين وأتباعه الصادقين، الذين ينطقون بالحق ويجاهرون بالمعروف ويطبقون أوامر الله دون وجل أو خوف.

ثانياً: الثبات على المبدأ.

الثبات على المبدأ مقام عظيم وشرف كبير من ناله فقد سار على درب النبيين والشهداء والصالحين، وهو نعمة إلهية وعطية ربانية يمنّ الله عز وجل بها على من شاء من عباده، فقد قال جل في علاه لنبيه صلى الله عليه وسلم ممتناً عليه بنعمة الثبات: (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ) الإسراء (74).

ويتضح الثبات على المبدأ في حادثة الإسراء والمعراج من المشهد الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم لماشطة ابنة فرعون، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِىَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَىَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلاَدِهَا. قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هِيَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِى قَالَتْ لاَ وَلَكِنْ رَبِّى وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ. قَالَتْ أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلاَنَةُ وَإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِى قَالَتْ نَعَمْ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلاَدُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ ليَ إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ وَمَا حَاجَتُكِ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِى في ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا. قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلاَدِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِىٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ. أخرجه أحمد.
ثالثاً: الرجولة مواقف ومبادئ.

هذه المعاني العظيمة يسطرها رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعندما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريش بحادثة الإسراء والمعراج خرج شاهد زور متطوع وباحث عن الإثم متبرع؛ ليشق صف المسلمين ويزرع الفتنة بين رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعندما سمع الصدّيق بالخبر وقص عليه القوم ما حصل، قطع عليهم الطريق من البداية وسد باب الفتنة في وجوههم ورد كيدهم إلى نحرهم وقال لهم بقلب ينبض بالإيمان ولسان ينطق بالحق: ” لئن كان قال ذلك لقد صدق” فتعجب المشركون وأُسقِطَ في أيديهم وضاعت عليهم الفرصة ونكصوا على أعقابهم وقالوا بسان اليائس البائس: ” أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ ” ، فقال : ” نعم ؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة “.

فاستحق رضي الله عنه بعد هذا الصدق وهذا الموقف المشرف وهذه الثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقب بلقب “الصديق”، فلا يذكر اسمه رضي الله عنه إلا قيل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكفاه شرفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حقه: (ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم).

وفي هذا الموقف العظيم لأبي بكر رضي الله عنه رسالة لكل مسلم أن الصديق الحقيقي يعرف بالأزمات وتكشفه المحن والكربات، فمن أعان أخاه في الضيق والمحنة استحق الأخوة الصادقة وكان خير رفيق لأخيه ومعين، فالصداقة الحقيقة تعرف بالمواقف الصعبة والمحن المتتالية لأجل ذلك قيل في الحكمة: (الصديق من صَدَقَك لا من صَدّقك).

وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

إنَّ أخاكَ الحقَّ من كان مَعَك *** ومَـنْ يضـرُّ نفسَـه لينفَعَكْ

ومَنْ إذا ريَبُ الزمانِ صَدَعكْ *** شتَّتَ فيـه شَمْلَـهُ لِيَجْمَعَـكْ
رابعا: مكانة المسجد الأقصى المبارك.

بما أن حديثنا عن الإسراء والمعراج فحري بنا أن نتحدث عن مسجدنا الحبيب الذي تعلقت به قلوب المؤمنين وتاقت إليه أرواح العابدين، وسطرت رحلة الإسراء والمعراج مكانته العظيمة وموقعه الكبير في التاريخ الإسلامي، فقد اختار الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يرحل إلى المسجد الأقصى المبارك من مكة المكرمة ثم يعرج إلى السماء، وطريق الرحلة هذه اختارها الله عز وجل ليدلل لنا على مكانة بيت المقدس وفضل المسجد الأقصى المبارك الذي كان قبلةً أولى للمسلمين قبل المسجد الحرام، والذي يعتبر من أقدم المساجد التي بنيت على الأرض فهو ثاني المساجد بناءً بعد الكعبة المشرفة، وثالث المساجد مكانة وأجراً بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي.

وكما أن الله تعالى ربط أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بالبيت الحرام، ربط رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم روحياً ودينياً ببيت المقدس عن طريق جعله قبلة للمسلمين وبإمامته للأنبياء والمرسلين فيه، وذكره كأرض مباركة ومقدسة في أكثر من أية قرآنية وبعدها جاء التأكيد المادي للربط عن طريق هذه الرحلة.
وعلى هذا فإن رحلة الإسراء والمعراج لها علاقة مباشرة مع هذا الصراع الديني، ولها ارتباط بما يدور في المسجد الأقصى ومحيطه من تخريب وفساد يمارسه بني صهيون ومن يقف معهم.
فلم تكن رحلة الإسراء والمعراج مجرد معجزة إلهية وهبها الله لخاتم أنبيائه ورسله، ولم يسجلها الله في كتابه العزيز إلا لتكون منارة يهتدي بها المسلمون كلما تاهت بهم السبل عن بيت المقدس، منارة تنفع الأمة في الحفاظ على وجودها وتأمين مصالحها على مر الزمان كلما استعجلها الخطر واقتحم أرض بيت المقدس، وهاهي تعود من جديد إلى قلب الصراع الحضاري بين المسلمين وغيرهم من اليهود وحلفائهم الغرب ممّن يريدون إخضاع الأمة والتحكم فيها وفق مصالحها.

وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يوحد أمتنا ويألف قلوبنا كي نعيد المسجد الأقصى لعزته ولمكانته السامية في تاريخنا العظيم.