للجانب الأخلاقي في تراثنا الإسلامي رصيد وفير لا يكاد يحصى؛ إذ أن اسلافنا قد تركوا لنا زادا فكريا عظيما في جانب تزكية الأخلاق، وتربية النفوس؛ بفضل ما كانوا عليه من طيب السلوك، وكرم المسلك؛ مستمدين ذلك الإرث من صميم تعاليم الإسلام الذي أحدث في الأنفس تغيرا عظيما لا يمكن أن ينكر .

لو تصفحت كتب الأسلاف الأوائل ستجد من دقائق الحكمة، وفضائل النصائح في تربية النفوس مالا يمكن جمعه، وما لا يمكن احصاؤه، كانت تسطر في بلاغة من القول، وتكثيف في المعنى ؛ لتشكل بعد ذلك زادا تربويا لكل باغي للخير، طالب للنصح.

ويمكن هنا أن نختار من كتاب “بهجة المجالس” واحدة من تلك الحكم الكثيرة، وبما يتصل بالموضوع الذي يشير إليه عنوان المقال؛ وهو قول عمرو بن عبيد: في المؤمن ثلاث خلال : أما أولاها: فهي يسمع الكلمة التي تؤذيه فيضرب عنها صفحا كأن لم يسمعها؛ وهنا نشير إلى ما أراد بن عبيد من خلق التغافل الذي أشار – عدد غير قليل من العلماء- إلى فضله الخلقي ، وسمو صاحبه النفسي، والتغافل تعني تناسي جميع صنوف الايذاء، والأعراض عن كل أشكال الاساءات، والرمي بها خلف الأظهر كأن لم يسمعها، والاستمرار في السير إلى الأمام بقلب يمتلئ رضا ومحبة للجميع، وعدم ترك الطريق للكلمة المؤذية بأن تجد طريقها إلى القلب؛ ليلوث صفاءه، ولا للسلوك السلبي أن يجد ممر إليه؛ فيثير فيه ما يعكر طهره؛ وذلك هو مكمن الأخلاق العلية؛ الذي تسمو إليه النفوس العظيمة، وذلك هو سر من أسرار النخبة من أصحاب الأخلاق الجليلة؛ والذي تعلو إليه القلوب النقية؛ تلك الأخلاق التي يسعى اليها الكثير ولا يصل اليها إلا القليل.

أما الثانية: فهي أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك؛ وهذا تحد جديد لسمو النفس وارتقاءها؛ فليس من السهل الوصول إلى هذا السمة النفسية النقية، حيث تتمنى للآخرين مثل ما تريده النفس من الخير، وتتمنى للغير مثل ما يتمناه القلب من مسرات، ولا شك أن المطلب صعب المنال، شائك المسلك؛ إلا من اصطفاه الله ووفقه إلى تلك المزية النفسية؛ التي تعكس طهارة النفس وصفاءها، وهو عين المطلب النبوي في الحديث الصحيح ” لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه” ، وكما هو معلوم فليس هنا النفي لأصل الإيمان، ولكن النفي يتوجه هنا لكمال الإيمان و لسموه الحقيقي؛ الذي يتعالى عن الحسد ، ويتسامى عن الأنانية؛ بل يتسع حب الخير لنفسه بأن يتمناه لإخوانه؛ وذلك بأن يتمنى أن يغمرهم من الخير مثل الذي غمره، وينالهم من الحظ مثل الذي ناله، ذلك هو كمال الإيمان، وذلك هو سمو الإيمان، وإن كان هذا المطلب ليس بسهل على الكثيرين، ولكن المسلم مطالب بتحسين أخلاقه وتهذيبها لتبلغ الأفضل، وقد تنال هذه الغاية بمجاهدة النفس وتطويعها على رفض تمني السوء للغير، ورفض ما ينتاب النفس من نزوات كره او حسد، وتمرينها في المقابل على تمني الخير للغير تمنيا صادقا من القلب، والدعاء لهم على الدوام بالخير والحب.

أما الثالثة: فيقطع أسباب الطمع من الخلق؛ وهنا معنى من معاني الكفاية التي تمنعك فيه عن أن تمد أمنياتك إلى ما عند الغير، وهو شكل من أشكال القناعة التي ترضى بما قسم لك، وتنأى عن الرغبة بما يمكن أن تكسبه من الغير؛ انه بمعنى آخر تعميق معاني الرضا بما تمتلكه النفس، والتسليم بما سلبت منها، والاكتفاء بما هو موجود والابتعاد عن التطلع بما عند الآخرين ،فلا ننتظر من الخلق كثيرا .

تلك ثلاث سمات تجمع فضائل الأخلاق، وترتقي لطهارة القلب؛ ففي الأولى تبسط النفس يدها لتحقق معنى التسامح والصفح، وتنبذ عنها روح الانتقام والغل، وفي الثانية تنثر مكنونها؛ لتحقق معنى الحب والخير، وتنبذ عنها الأنانية والأثرة، وفي الثالثة تنشر سرها؛ لتحقيق معنى الرضا والقناعة، وتنبذ عنها الطمع والحسد؛ ثلاث سمات خلقية تنطلق نحو سمو النفس سموا تترفع فيه عن اوحال المادة البشرية المتباغضة؛ لتحقق الصيغة الإنسانية الرفيعة.