يعرج بنا البيان القرآني ، ويسمو بعقولنا فوق مستويات البيان البشري وقدراته؛ ليتضح لنا البون الشاسع بينهما. إن البيان الإلهي يحلق بنا في سماوات الفهم، ومقاماته العالية الراقية، ويسبح بنا في أفلاك البيان ومدارج الكمال، ويسبر أغوار النفس البشرية وأعماقها؛ ليقف بنا أمام البلاغة في أرقى صورها وأدق مقاماتها. (قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ یَوۡمُ ٱلزِّینَةِ وَأَن یُحۡشَرَ
يشد انتباهك ويدهشك كما أدهش المتدبرين فيه، والمتأملين في دقائق نظمه من أساطين البيان! ذلك هو القرآن في معارج بيانه، التي لايستطيع البيان البشري أن يرتقي فيها، فضلا أن يدانيها. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة إبراهيم 36] فختمت فاصلة البيان (فَإِنَّكَ غَفُورٌ
يعرج البيان القرآني بالمعاني والأفهام فوق متوقع فهوم البشر من الكلام، فماهو زائد في بيانهم هو محكم دقيق في الاستعمال القرآني، لايمكن الاستغناء عنه بحال، فأمعن النظر وأنعم الفكر في قوله تعالى، واصفا حال المنافقين بزعمهم الإيمان (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ) إن البيان القرآني استعمل الباء في هذا
يرتقي البيان الإلهي المعجز في التعبير على البيان البشري في دقة استعمال المفردة القرآنية، ويختارها بقصد دون مرادفها في اللسان، فيرتقي بالأفهام في معارج البيان. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ) لو كان هذا من بيان البشر لورد على نحو (لا
يحلق بنا البيان القرآني بحقائقه التي تتجاوز مجاز البشر والأذهان ؛ وذلك نوع من الارتقاء بالفهم على عوالم الدنيا إلى عوالم الآخرة، وهو عروج بالمعاني والأفهام. (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) نعم عيشة
(ٱبۡلَعِي…وَغِیضَ) هنا قلائد العقيان، تنتظم درره بدقة وإحكام، وتماسك وانسجام، في سلك هذا البيان! (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) توجه الأمر الإلهي للأرض ببلع مائها، والبلع يقتضي اختفاء الماء على وجه السرعة؛ فكان، ومقتضى منطق اللغة ومتوقع السياق والحال، في مقام الكلام أن يرد (واختَفَى الماءُ) أو
قال تعالى : (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج، 31]. يشد البيان القرآني أذهان متلقيه من أرباب البيان بأسلوبه البديع وتصرفه البليغ في فن القول في هذا المقام؛ إذ تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع “فتخطفه” أو “تهوي”، ولم يأتِ السياق على نسق
لقد راعى الإسلام -في مقاصده الشرعية في الإرث- العدل لا المساواة. لذلك جاء التعبير القرآني دقيقا في مطلع البيان إذ قال : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فاستخدم فعل الإيصاء وقرنه بحرف الجر “في” (يوصيكم الله في) وهو الموضع الوحيد في معجز التشريع والبيان قرن فعل الإيصاء فيه بفي، والمعتاد
إن الناظر في تحولات الحياة، وجبروت الظالمين والطغاة، قد ينتابه حالة من الحزن الشديد؛ حتى يتمنى أن يعاجلهم العقاب ويرى القصاص العادل أمام عينيه من الظالمين؛ انتقاما للمظلومين، فيأتي بلسم البيان الإلهي القرآني مراعيا الحالة النفسية خطابا للمؤمنين عبر عصور الزمان، في كل وقت وحال، ابتداء من الرسول – ﷺ- وخطابه خطاب لأمته ، ممن
إن النظم القرآني البديع المعجز يجمع بين جمال المبنى وروعة المعنى، ويأتلف فيه إعجاز البيان مع إعجاز التشريع ومقاصد الأحكام، وعندما تعيش الأمة مع كتاب ربها تلاوة وتدبرا وعملا؛ تستقيم حياتها على الجادة وتسير على نور من ربها يضيء لها دروب حياتها . وفي هذا السياق نقتبس نورا من أنوار آيات النور، نقف عند جمالها
إنه البيان المحكم البديع، يضع مقاييس البيان وفق مقامات الكلام بدقة محكمة في منتهى الإحكام ..! تستوقفنا آيتان ورد السؤال عنهما فكان هذا البيان .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ
إن البيان القرآني المعجز المحكم العميق في بيانه ومعانيه وقراءاته، يستوقفنا لتدبره، وتأمل آياته. يقول تعالى : { وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [سورة الأنعام :27] ففي هذا السياق نلحظ التحول إلى النصب في الفعلين (ولا نكذبَ … ونكونَ) … ولو مضى السياق على
( وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: 60]. جاء لفظ الإعداد الذي يقتضي في مفهومه التخطيط واستشراف المستقبل بالنظر البعيد والفهم العميق لمجريات الواقع والأحداث، ثم قدم المعد لهم على ماهية الإعداد إذ قال : (لهم )؛ للعناية والاهتمام وبث مفهوم اليقظة الدائمة في نفوس
قال تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء: 27]. أبرز هذا العدول عن الجملة الاسمية (والله يريد…) إلى الجملة الفعلية (ويريد الذين…) المفارقة بين إرادتين، وأشار إلى كمال المباينة بين مضموني الجملتين. فإرادة الله إرادة خيِّرة فيها كمال النفع والصلاح لخلقه، وإرادة متبعي الشهوات إرادة شريرة خبيثة،
(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) القاعدة في الوصف الخاص بالمؤنث أنه لا تلحقه علامة التأنيث، فلا يقال: امرأة حائضة، ولا امرأة مطلقة وهكذا، يقول السيوطي(1):”والغالب ألا تلحق الوصف الخاص بالمؤنث كحائض و طالق وطامث ومرضع، لعدم الحاجة إليها بأمن اللبس. ويعلل أحد الباحثين ذلك بقوله(2):” ولعل هذا راجع إلى مرحلة قديمة من
( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ
للقرآن الكريم استعمال خاص للألفاظ، فالبيان القرآني محكم ودقيق في اختيار الألفاظ، وذلك من أسرار الإعجاز فيه. إذ ارتقى على الأسلوب البشري غاية الارتقاء في إحكام البيان؛ وهنا يظهر البون الشاسع الذي لا يقارن مطلقا بين استعمال البيان القرآني وبيان البشر في التعبير .. فالبيان القرآني له خصوصية استعمال ودقة وإحكام، ففرق مثلا في الاستعمال
(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [سورة البقرة 50] سبحان الله! ما أعظم هذا البيان! قال (فرقنا بكم)، فقدمهم على ذكر البحر ، وجعلهم سببا للمعجزة (بكم) و جزءا منها، وشاهدين عليها (تنظرون) .. وسارع بنجاتهم (فأنجيناكم) في مسارعة وسهولة الإنجاء ، متصلة بالفاء.. وبعد أن طمأنهم بنجاتهم، شفى صدورهم بمشاهدة
عندما تحدث المولى عز وجل عن مشابهة عيسى لآدم في الخلقة من غير سابق نظير؛ لإبراز طلاقة القدرة الإلهية، وذلك في سياق التوضيح وإزالة العجب في مجيء عيسى من غير أب له، ضرب لهم المولى عز وجل مثلا على طلاقة القدرة الإلهية في إيجاد أصل البشرية وأبيها الأول آدم عليه السلام من غير أب وأم،