كان للقرآن الكريم الأثر الأكبر في صياغة شخصيات فذّة فريدة لصحابة رسول الله ، وتصحيح سلوكهم، فكان أثره في صناعة هذا الجيل لا يدانيه أثر، لا سيما وقد كان ينزل عليهم مفرّقاً وفق الأحداث والنوازل المستجدة، فضلاً عن وجود النبي معلّما مرشداً لهم بالمنهج القرآني العظيم، فساهم ذلك بولادة شخصيات قرآنية فذّة رأينا أثرها لاحقاً حين فتحوا البلاد وعدلوا بين العباد، وسادوا بين الأمم.

وكان من أهم القيم التي ركّز عليه القرآن الكريم، الأخلاق الفاضلة مع النفس والغير، فسار النَّبيُّ في مستهلّ دعوته على المنهج القرآنيِّ في تربية أصحابه على الأخلاق الكريمة، وكانت الأخلاق تعرض مع العبادة والعقائد في وقتٍ واحدٍ؛ لأنَّ العلاقة بين الأخلاق والعقيدة واضحةٌ في كتاب الله تعالى، وقد بيَّن سبحانه لرسوله ، وللمسلمين، الأخلاقيات الإيمانيَّة الَّتي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بـ (لا إله إلا الله)، والأخلاقيات الجاهليَّة الَّتي ينبغي أن ينبذها المؤمنون، والحقيقة: أنَّ التَّنديد بأخلاقيات الجاهلية قد بدأ منذ اللَّحظة الأولى، مع التنديد بفساد تصوُّراتهم الاعتقاديَّة، واستمرَّ معه حتَّى النِّهاية.

وكان النَّبيُّ   يربِّي أصحابه على حسن الخُلُق، ويحثُّهم عليه، فعن النَّبيِّ   قال: «ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخُلُق، وإنَّ الله تعالى لَيُبْغِض الفاحشَ البذيءَ» [أبو داود (4799) والترمذي (2002) وابن حبان (476)].

وسئل رسول الله   عن أكثر ما يُدخل النَّاس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسنُ الخلق»، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناسَ النار؟ فقال: «الفمُ، والفرجُ» [أحمد (2/392) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) وابن حبان (476) والبخاري في الأدب الفرد (289 و294)]، وقد بيَّن   لأصحابه عظم ثواب حُسْنِ الخُلُق، فقال: «إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسِنَكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثَّرْثارون، والمتشدِّقونَ، والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله! قد علمنا (الثرثارون، والمتشدِّقون)، فما المتفيهقون؟ قال: «المُتكبِّرون» [الترمذي (2018)].

الثَّرثار: هو كثير الكلام بغير فائدةٍ دينيَّةٍ. والمتشدِّق: المتكلِّم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً، وتطاولاً، وإظهاراً لفضله على غيره، والمتفيهق: هو الَّذي يتوسَّع في الكلام، ويفتح به فاهه، وأصله: من الْفَهْقِ، وهو الامتلاء.

إنَّ الأخلاق ليست شيئاً ثانوياً في هذا الدِّين، وليست محصورةً في نطاقٍ معيَّنٍ من نُطُقِ السُّلوك البشريِّ؛ إنَّما هي ركيزةٌ من ركائزه، كما أنَّها شاملةٌ للسُّلوك البشريِّ كلِّه، كما أنَّ المظاهر السُّلوكيَّة كلَّها ذات الصِّبغة الخلقيَّة الواضحة، هي التَّرجمة العمليَّة للاعتقاد، والإيمان الصَّحيح؛ لأنَّ الإيمان ليس مشاعر مكنونةً في داخل الضَّمير فحسبٍ؛ إنَّما هو عملٌ سلوكيٌّ ظاهرٌ كذلك، بحيث يحقُّ لنا حين لا نرى ذلك السُّلوك العمليَّ، أو حين نرى عكسه أن نتساءل: أين الإيمان إذاً؟ وما قيمته إذا لم يتحوَّل إلى سلوكٍ؟!

ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطاً قويّاً، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ؛ منها:

قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 – 11] ؛

فالسورة تبدأ بتقرير الفلاح للمؤمنين بهذا التَّوكيد: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)، ثُمَّ تصف هؤلاء المؤمنين بذلك الوصف المطوَّل المفصَّل، الذي يُعْنَى بإِبراز الجانب الخلقي لأولئك المؤمنين، موحياً إيحاءً واضحاً أنَّ هذه الأخلاقيات – من جهةٍ – هي ثمرة الإيمان، وأنَّ الإيمان – من جهةٍ أخرى – هو سلوكٌ ملموسٌ يُترجِم عن العقيدة المكنونة.

إنَّهم بادئ ذي بدء خاشعون في صلاتهم، فذلك أوَّل مظهرٍ للمؤمن الصَّادق: أن تكون صلاتُه – وهي اللَّحظة التي يقف فيها متعبِّداً لربِّه، ذاكراً له في قلبه، متَّصلاً به بروحه – صلاةً خاشعةً بما ينبئ عن صدق الصِّلة باللهِ؛ الَّتي يرتفع نبضها وحرارتها في أثناء الصَّلاة، ثمَّ تثنِّي السُّورة بصفة سلوكيَّة أخرى ذات دَلالةٍ، هي: أنَّهم عن اللغو معرضون؛ فاللَّغو لا ينبئ عن نفسٍ جادَّةٍ، والإيمان الصَّحيح يورث النَّفس الجدَّ بما يشعرها من ثقل التَّكاليف، وجدِّيتها، والجدُّ ليس تقطيباً دائماً ولا عبوساً، ولكنَّ اللَّغو – من جانبٍ آخر – لا يستقيم مع جدِّية الشُّعور بعظم الأمانة؛ التي يحملها الإنسان أمام خالقه، ثمَّ إنَّ هؤلاء المؤمنين لابدَّ أن تكون في قلوبهم الحساسية لحقِّ الله في أموالهم، وهو الزَّكاة.

ولابدَّ أن يكونوا ملتزمين بأوامر الله في علاقات الجنس؛ فلا يتعدَّون حدود الله، وملتزمين بأوامره في علاقتهم الاجتماعيَّة؛ فيحفظون الأمانة، ويرعون العهد، وبهذا نفهم فَهْم الصَّحابة للأخلاق، فهي ثمرةٌ طبيعيَّةٌ للعقيدة الصَّحيحة، وكذلك العبادة الحيَّة الخاشعة لله، هكذا تعلَّموا من القرآن الكريم، ومن هدي حبيبهم الصَّادق الأمين   .

لقد رسم القرآن الكريم لهم صورةً تفصيليَّةً للشَّخصيَّة المؤمنة، فكانت العبادة أوَّل مَعْلَمٍ واضح فيها؛ فنظروا كيف جعل الله في أوصاف المؤمنين أول وصفٍ لهم الخشوعَ في الصَّلاة، وآخر أوصافهم المحافظة عليها، ووصفهم بفعل الزَّكاة، وهي عبادةٌ، مع الفضائل الخلقيَّة الأخرى.

إنَّ القرآن الكريم يبرز جانب العبادة أحياناً، وجانب الأخلاق أحياناً أخرى؛ لمناسباتٍ واعتباراتٍ توجب هذا الإبراز، ففي سورة الذَّاريات كانت العناية بالعبادة في وصف المتقين: ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 16 – 19] .

وفي سورة الرَّعد كانت العناية بالجانب الأخلاقيِّ في وصف أصحاب العقول، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ *وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ *وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 19 – 22].

ومع أنَّ معظم الأوصاف هنا أخلاقيَّةٌ – لمناسبة أولي الألباب – مثل الوفاء والصِّلة، والصَّبر، والإنفاق؛ لكنَّ الملحوظ فيها أنَّها ليست مجرَّد أخلاقٍ (مدنيَّة)، وإنَّما هي أخلاقٌ ربَّانيَّة، أخلاقٌ فيها معنى العبادة، والتَّقوى، فهم إنَّما يوفون (بعهد الله)، وإنما يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهم إنَّما يفعلون ويتركون؛ لأنَّهم ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾، وهم إنَّما يصبرون؛ فهم في كلِّ أخلاقهم وسلوكهم يرجون ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾، ويرجون اليوم الآخر. (تهذيب مدارج السَّالكين، 2/657)

لقد تربَّى الصَّحابة رضي الله عنهم على أنَّ العبادة نوعٌ من الأخلاق؛ لأنَّها من باب الوفاء لله، والشُّكر للنِّعمة، والاعتراف بالجميل، والتَّوقير لمن هو أهل التَّوقير، والتَّعظيم، وكلُّها من مكارم الأخلاق، كانت أخلاقُ الصَّحابة ربَّانيَّة، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرَّجاء في الآخرة، وغرضها رضوان الله، ومثوبته، فكانوا يصدقون في الحديث، ويؤدُّون الأمانة، ويوفون بالعهود، ويصبرون في البأساء والضَّرَّاء، وحين البأس، ويغيثون الملهوف، ويرحمون الصَّغير، ويوقِّرون الكبير، ويرعون الفضيلة في سلوكهم؛ كلُّ ذلك ابتغاء وجه الله، وطلباً لما عنده تعالى؛ فقد كانت بواعثهم وطوايا نفوسهم، كما قال تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا *وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11 – 12]. (دراساتٌ قرانيَّةٌ ، محمَّد قطب ، ص 130)

إنَّ أخلاق المؤمن عبادةٌ؛ لأنَّ مقياسه في الفضيلة، والرَّذيلة، ومرجعه فيما يأخذ وما يدع، هو أمر الله ونهيه؛ بالضَّمير وحدَه ليس بمعصومٍ، وكم من أفرادٍ وجماعاتٍ رضيت ضمائرهم بقبائح الأعمال!. (العبادة في الإسلام ، القرضاوي ، ص 123)

والعقل وحده ليس بمأمونٍ؛ لأنَّه محدودٌ بالبيئة والظُّروف، ومتأثِّرٌ بالأهواء والنِّزاعات، وفي الاختلاف الشَّاسع للفلاسفة الأخلاقيِّين في مقياس الحكم الخلقيِّ، دليلٌ واضحٌ على ذلك، والعرف لا ثبات له، ولا عموم؛ لأنَّه يتغيَّر من جيلٍ إلى جيل، وفي الجيل الواحد من بلدٍ إلى بلدٍ، وفي البلد الواحد من إقليمٍ إلى إقليم؛ ولذلك التجأ المؤمن إلى المصدر المعصوم المأمون الَّذي لا يضلُّ، ولا ينسى، ولا يتأثَّر، ولا يجور. (الوسطيَّة في القران الكريم ، ص 591)

إنَّ الأخلاق في التَّربية النَّبويَّة شيءٌ شاملٌ، يعمُّ كلَّ تصرُّفات الإنسان، وكلَّ أحاسيسه، ومشاعره، وتفكيره؛ فالصَّلاة لها أخلاقٌ هي الخشوع، والكلام له أخلاقٌ هي الإعراض عن اللَّغو، والجنس له أخلاق هي الالتزام بحدود الله، وحرماته، والتَّعامل مع الآخرين له أخلاقٌ هي التوسُّط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعيَّة لها أخلاقٌ، هي أن يكون الأمر شورى بين النَّاس، والغضب له أخلاقٌ هي العفو والصَّفح، ووقوع العدوان من الأعداء تستتبعه أخلاقٌ هي الانتصار – أي: ردُّ العدوان – وهكذا لا يوجد شيءٌ واحدٌ في حياة المسلم ليست له أخلاق تُكيِّفه، ولا شيءٌ واحدٌ ليست له دَلالةٌ أخلاقيَّةٌ مصاحبةٌ.

هذا أمر، والأمر الآخر – وهو الأهمُّ – أنَّ الأخلاق في المفهوم القرآني هي لله، وليست للبشر، ولا لأحدٍ غير الله؛ فالصِّدق لله، والوفاء بالعهد للهِ، واتِّقاء المحرَّمات في علاقات الجنس لله، والعفو، والصَّفح لله، والانتصار من الظُّلم لله، وإتقان العمل لله، كلُّها عبادةٌ لله، تُقَدَّمُ لله وحدَه؛ خشيةً لله، وتقوى، وتطلُّعَاً إلى رضاه، إنَّها ليست صفقةً بشريَّةً للكسب، والخسارة، إنَّما هي صفقةٌ تُعقد مع الله. (الإيمان والحياة ، القرضاوي ، ص 256)


ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” السيرة النبوية “، للدكتور علي محمد الصلابي.