رحلة الحياة الزوجية رحلة طويلة ومليئة بالمفاجآت، لذلك على أصحاب هذه الرحلة أن يجتهدوا لبناء بيت جميل، وبذل كل الجهد المطلوب لتجميل هذا البيت. ولكن هل يبقى من هذا الجمال والروعة شيء لو تركنا القمامة والمهملات تتراكم في جنباته؟. من المؤكد أنه بعد كل جهد وبذل نحتاج لآليات ووسائل دائمة لإزالة التراكمات في الحياة الزوجية .

هذه المخلفات هي التي تجعل التراكمات في الحياة الزوجية تتكاثر في جنبات حياتنا، وهي مخلفات أو تراكمات تنتج من الاحتكاك المستمر بيننا، فالزوجة قد تقول أو تفعل شيئًا – تقصده أو لا تقصده– فيؤلم الزوج، ولكنه يصمت، وكذلك يحدث من الزوج، وتتألم الزوجة ولكنها تصمت، والنتيجة تراكمات سلبية تنخر في جدران الحياة الزوجية، تراكمات تفعل فعلها بمرور الوقت، والنتيجة حياة ولا حياة، زواج ولا زواج، فالكأس امتلأت ولا حيلة ولا وسيلة لإفراغها، ولم يعد في الإمكان تحمل المزيد.

بين البداية والنهاية

لا يُقدم رجل أو امرأة على الزواج للأسف واضعًا في عين الاعتبار مراحل العمر الآتية ومتطلباتها، بل نختار بالقلب، أو بالعقل أو بكليهما معًا ما يسعدنا وما يناسبنا الآن، وهذه أول صامولة تُفقَد طواعية، ولكنه الاختيار، وهذا حديث آخر.

إن العلاقة الزوجية على خصوصيتها الشديدة، هي في النهاية علاقة بين شخصين، آدميين بكل ما يحملانه من طاقات ومشاعر وأفكار، وعليهما أن يشيدا معًا البناء، والبناء عملية مركبة ومعقدة تستلزم كفاءة وتخصصًا وبالتالي دراسة وتخيُّلاً، ومشاعر وصبرًا وتعاونًا ومحبة.

ولأن الناس حين يتزوجون اليوم لا يكون لديهم تخيل لشكل البناء الذي يريدون أن يستريحوا فيه حين يكتمل؛ فإن كل واحد يضع ما يشاء من أحجار أو أخشاب في أي مكان وكل مكان متصورًا فيه الزوجية المثالية، والعطاء الممدود، ويظل هذا الشيء يحمل اسمًا وشكل مبنى، فإذا جاءت اللحظة الحقيقية للراحة والسكن اكتشف أحدهما أو كلاهما أن بناءهما ليس بيتًا ولا يصلح أن يكون. فمن المسئول؟ وكيف وصل الحال لما هو عليه في أحرج اللحظات؟

هذا ما تفعله في رأيي نوعية الاختيار، ثم الاستمرار في فك وحل أو حتى “اللخلخة” بالتعبير الدارج لمفصليات طاقة الطرف المقابل.

في البداية، التحمل أكبر

إن الإنسان في مقتبل حياته وبداية الشباب يمتلك طاقة عالية وقدرة على القبول والحلم والأمل، يعني لو بدأ الخاطب طريقه مع امرأته حاملاً مجموعات من الأوامر والمحرمات التي تزعجه، والتي لا ينبغي مجرد الاقتراب منها، أوامر ونواهٍ ما أنزل الله بها من سلطان لمجرد فرض الرغبات وإثبات الذات، فهي ستناقش أحيانًا، وتحاور أحيانًا، ثم تتقبل على مضض مبتلعة ألمها، وفي قلبها حلم وأمل، إن “غدا أكيد أحلى”.

والمرأة بطبعها تتحايل على المواقف لتخرج بأقل خسارة، ما دام هذا هو الشريك، وهذه هي الزوجية، ولكن في أعماقها صامولة تم فكها وحلها.

هداياه قليلة، وكلامه الحلو بالقطارة، ويكتفي أنه يفعل ما يفيد، وأن كل ما يفعله هو في النهاية لها، ولا يفهم أو يتفهم طبيعتها الأنثوية، واحتياجاتها، ولا حتى الأسباب التي وضعها رب العباد لتقلباتها المزاجية والنفسية.

يدخل البيت باحثًا عن الطعام والراحة؛ لأنه منهك من العمل وزحمة الطريق وصدره ملوث بكل السموم، وهذا حقه، ولكن أليس في البيت آدمي؟! هذا ليس معناه أن يعود حاملاً باقة زهور ويغني لها: “اشتقت إليك فعلمني ألا أشتاق”، أبدًا، أعان الله الرجال على أعبائهم، ولكن هناك دائمًا سر صغير في اختيار اللفظ، وزر صغير يفصل بين تحرك وآخر، وكل المطلوب إضافة مجهود قليل لاستخراج سحر اللفظ وأثر الأداء، وانظروا معي لرجل يفتح باب بيته ليدخل وهذا ما تسمعه هي منه:

– سلام عليكم يا أهل الدار “أو البيت” “أو فلانة” الأكل جاهز؟! واللا لسه؟ بسرعة لأني تعبان ومهدود، أريد أن آكل لقمة وأتمدد لأرتاح.

وآخر:

– سلام عليكم يا “فلانة” بالاسم، أو يا حبيبتي، أو، كيف حالك؟، آه يا فلانة تعبان جدًّا، تعالي نأكل لقمة (لم يسأل حتى إذا كان هناك طعام تم طبخه، وهذا يوحي أنه سعيد ومستعد لكل ما هو موجود ما دامت “لقمة مع بعض”) وبعدين نمدد، نتكلم قليلاً حتى أنام، أو حتى أرتاح من تعب اليوم.

كلاهما متعب وجائع، ولكن الأول أخرج زوجته تمامًا من جدول تحركاته فما هي النتيجة؟ إنها بالتدريج ستنفصل عنه نفسيًّا بداخلها، هذا انفصال لا شعوري وغير متعمد، حدث من جملة، هي مجرد مثال لملايين بمثل معناها تتكرر على مدار الأيام، تحضر الطعام، ترتب البيت، لمجرد أنه يريد كذا، أو يحب كذا، أو بمنطق أن أسكته فأرتاح، أو هو لن يتغير، لن يضغط على نفسه ويتحمل من أجلي، خلاص، وكل هذه صواميل ومسامير كثيرة يتم حلها وفكها ببطء على مدار الأيام. والمضحك المبكي أن هذا البيت إذا دخلتموه، وهذا الرجل إذا سمعتموه فستجدونه يصف بيتًا جميلاً، وأسرة مستقرة، بل الأهم أنه سعيد بزوجته المريحة، المطيعة، فأين الخلل؟

حصاد الثمار

الخلل سيظهر بعد سنوات، للأسف سيراه حين يحتاج هو لحضن الزوجة ودفء البيت، حين تبدأ فورة العمل وثورة الحركة في الاستقرار، حين تتضح معالم المستقبل، ويسير الإنسان وقد أشعل كل مصابيح الطريق إلى واحته، ويبدأ في مراقبة الثمار ليجنيها تباعًا، ولكنه لن يجد ثمار الحب والدفء والحنان، ولن يشاركه أحد فرحة جني الثمار الأخرى، عزل زوجته نفسيًّا وحبس مشاعرها لسنين، وبالتالي ستكون علاقتها به على أحسن الفروض مجرد أداء الواجب المطلوب، فهذا ما تؤديه من البداية، استنزف بطارية طاقتها ولم يشحنها، فمن أين لها بها؟!

هذه ليست دعوة لتلبية رغبات الزوجات بلا مبدأ أو شرط، بل لمتابعة طاقاتها العاطفية، فإذا أخذت منها، وجب أن تعطيها، إن طلبت بيد، امنح شيئًا آخر باليد الأخرى، على شرط: امنحها ما تحتاجه، “مرة أخرى ما تحتاجه” وليس ما تريد أن تعطي!!!

نحن هنا لا نصور زوجًا سيئًا أو رجلاً لا يطاق، بل ملايين الرجال الطبيعيين المحترمين الذين لم يفكروا أن يتفهموا متطلبات ومدلولات علاقة العمر، رغم تفوقهم الدراسي وحصولهم على دورات في كل العلوم الحديثة، وتجده يتعجب حين يقترب من فتح بوابة الأربعين، أين الأحلام وأين السعادة؟ إن السعادة الزوجية نبتة، بذرة، إن لم تخترها بعناية، وتسمدها وترويها وتتابع نموها، وتظللها من وهج الشمس حتى لا تحترق، وتخرجها إلى بصيص النور المتاح حين تظلم الدنيا، فلن تعيش، ولن تجدها حين تحتاج أن ترتمي تحتها لتنعم بالهدوء وتنام مرتاح البال.

إن الإنسان كما ذكرنا سابقًا في شبابه الأول قادر على الحركة الكثيرة، ويمتلك قوة تجعله يجد كل ما يحتاج إليه في أي مكان وكل مكان، يخرج مع أصحابه تاركًا زوجته في البيت مع الأطفال، أو عند أمها، ويعتبر أن هذا قمة العطاء، ليخرج هو منطلقًا، مرفهًا عن نفسه، من حقه، من حقه أن يرفه عن نفسه، وأن يراعي احتياجاتها وألا يجهدها أو يضغط عليها.

ولكن من زرع حصد، بمرور السنين اعتادت الزوجة الصغيرة أن تبتلع الألم ثم تكيفت معه فلم يعد ألمًا، بل تحول إلى نمط حياة، والزوجة لا تقبل ولن تقبل سواه، وهنا يكون كلاهما –الزوج والزوجة– على بوابة جني الثمار، في البداية يؤلمها ألا يتنازل عن احتياجاته وعاداته، هل أنجبت الأولاد وحدها حتى يصيروا سجنها وحدها؟ ألم تكن لها حياة ورغبات؟ وصديقات؟! وأحلام وطموحات؟! وانطلاق ومرح وسعادة؟ لماذا عليها وحدها أن تدفع فاتورة الحياة المشتركة، من طاقتها هي، من طموحها، وحدها تتفهم، وحدها تتحمل، وحدها تتنازل، لماذا؟ ثم تغلبها الأمومة وطبيعة الأنثى، فتخلق لنفسها نوعًا آخر من المتعة والسعادة والانطلاق ليس للزوج فيه مكان أو دور، وهكذا يلتقيان غريبين بعد سنين العشرة على باب حديقة الثمار.

والمشكلة في هذه الحالة أن أولادها دائمًا معها، أما أصحابه، أما انطلاقاته فلا بطبيعة متطلبات المرحلة، فيجد نفسه: ضيفًا محبوبًا، معززًا مكرمًا في بيت المفروض أنه صاحبه، ولكنه “ضيف” على المشاعر، على ذكريات الألم والتعب والجهد، فهي وحدها التي تعطي الثمار طعمًا ولونًا ونكهة مُمَيزة ومُميِزة.

والشاب يستطيع أن يتخذ قرارات وحده في بداية حياته وإن بدا عليه أنه يشاركها القرار ولكن!!! وهي تتراوح من: أنا خارج، الصبح الشغل، وبالليل في البيت زهقان، محتاج أمارس رياضة، أقابل أصحابي، حياتي مملة وكأني عندي 100 سنة.

إلى: سننتقل للعيش في قريتي لأفتتح مشروعًا، حصلت على منحة دراسية أنا مسافر، عندي عقد عمل بمرتب هايل، أرتب أموري ثم أبعتلك أنت والأولاد، أو خليك هنا علشان المدارس وأنا أنزل في الإجازات، وتتراوح الردود بين:

أنا مش قادرة أخرج، ما تخليك، الولد سينام، الأولاد ذاكرون، تعالى نجلس في البلكونة (التي لم تعد تطل على أي شيء يسعد الإنسان ويغسل همومه) ونتكلم مع بعض، أو: ستبتعد كل هذه الفترة، الأرزاق على الله، الأولاد تحتاج لوجودك (ونادرًا ما تقول أنا أحتاج وجودك)،.. و.. و.. و.. إلى أن نصل لمرحلة افعل ما يحلو لك، كله سيان، مفيش مشاكل.

وتزداد “الخلخلة” التي تؤدي إلى الخلل، فهي مع أطفالها أو على التليفون أو أمام التليفزيون، أو مع الصديقات في التافه أو المفيد، النتيجة أصبح لها شريك آخر في حياتها ارتبطت به نفسيًّا، وتمر السنون ويدخل بيته يومًا فخورًا بما أنجز وعنده رغبة أن يجلس إليها، ليشاركها مشاعره فيجدها إما تسمع له مجاملةً وعقلها شارد في الفائدة التي ستعود عليها هي والأولاد أو لا تسمع أصلاً، هل هو كلام للدفاع عن “الزوجات الغلابة؟”، أبدًا، فلكل دوره، وخصوصيته في تبوير الأرض، أرض حديقة الثمار.

هي أيضًا قد تبدأ حياتها مع من اختارها ولهًا بجمالها، أو دلالها، متيمًا بها، تأخذ، وتتحنن بالعطاء، نظرة واحدة من عينيها الجميلتين كفيلة بإذابة كل مقاومة لحصونه وقلاعه.

أريد أن أخرج، فيرتدي المسكين ما خلعه من لحظة، ويعود لتراب الشارع الذي نجا منه بأعجوبة، أريد أن أنجد الصالون، لست أقل من فلانة، أين كنت؟ لا تتأخر،! رأيت رقمًا غريبًا على تليفونك، هذه ليست حياة، طول النهار بس يا ولد، بس يا بنت، طبيخ، وغسيل، لو حابب تخرج خذ أولادك معاك، خليني أرتاح شوية، ويخرج إلى النادي أو إلى الحديقة أو إلى الشارع، أسوأ أماكن تربي فيها أطفالك، ويلعب الأبناء في ركن الأطفال، وبابا يراقب، وماما تنظر، ولكن إلى متى؟ وما هو الهدف؟ وأين البناء؟ وتتلخلخ المسامير، وتمر الأيام، ويذبل الجمال أو تنطفئ جذوة الغرام الملتهب، ويدخل الجميع حديقة الثمار، ولكن هذه المرة لن يجدوا ثمارًا، فالأرض غير صالحة أصلاً، وهو وهي لم يحاولا أن يفلحا فيها، فيكون النتاج نباتات هزيلة وشجيرات تحتاج إلى دعامات لتستمر، إلا ما رحم ربي.

في البداية هي تستطيع أن تقدر وتأتي على نفسها، وهو يمكنه أن يتحمل، ولكنهما سحبا من رصيد بطارية الطاقة، التي إن لم يتم شحنها أولاً بأول، يصيبها العطب.

بناء يدوم العمر كله

تريد أن تجد بيتًا وأبناءً وزوجة (أو زوج) تفخر بهم في الدنيا ويسعدك حسابك عنهم يوم القيامة، يبقى فيه تعب ومجهود إلى أن يتم البناء، المودة والرحمة والسعادة الزوجية لا تهبط من السماء، بل نشدها منها..

  • كلمة حلوة منك رغم التعب والإنهاك وقبلة عاشقة رغم القوة الخائرة.
    •  ابتسامة رضا وضمة حنان ولقمة حلوة منك رغم الملل والسهر والتعب ومحاولة تدبير الحال.
    • تضحية برغباتك والتنازل عن عاداتك بعضها أو كلها في سبيل التوافق معها ومع متطلبات الحياة الجديدة.
    • البنوتة المدللة، وخيالات سندريلا، والأمير الجميل، والجميلة النائمة وتاج الجمال والفتنة كلها فداء صوت ضحكة رجلك السعيد تتردد في البيت وصداها في قلبك.

الخلاصة

إذا أردت أن تمسك يدها بعد 10 أو 15 سنة زواج وأنتما تسيران معًا في أي مكان، تمسك يدها بحب وحنان من يخاف عليها أن تضيع منه، من يسعد بضمها إليه، من يشعر بحلاوة قربها وبقلبها الذي يمتلكه بين أصابعه.

إذا أردتِ أن تكون ضمة يده تلك ليدك ليست ليجذبك إلى الناحية الأخرى من الطريق، بل لينقل إليك مع كل ضمة أصابع حبه وحنانه ليحتويك في صدره بأطراف أنامله.

فهذه صورة تحتاج لبذل وعطاء وتفكير وتركيز وتنازلات وتضحيات في الوقت الذي تكون كل هذه الأشياء فيه ولله الحمد خيارية واختيارية، وضمن قدرة النفس وتجليات المرحلة، فإن فعلتما حصلتما تمامًا كما في: إن تذاكر تنجح، ومن زرع حصد، ومن جد وجد.

وإن لم تفعل، عادي، يسري عليك ما يسري على غيرك، والراحة من مخلوقات الجنة والسعادة من أحلام الشباب الطائش الذي كنته في يوم من الأيام وتركت الفرصة تفلت.

وبعد أن شاهدنا الواقع، يأتي السؤال: هل للتراكمات في الحياة الزوجية أنواع؟ ما هي؟ وكيف ندعم الإيجابي ونمحو السلبي منها؟