أميّة الأساتذة الثقافية والرقمية ليست خاصة بكثيرٍ من التدريسيين في الجامعات العربية، بل إنها تغطي أكثر الجامعات التي أعرفها في المحيط الإقليمي خارج فضاء التعليم العالي العربي، كما تشير بعضُ البيانات والتقييمات في جامعات شرقية وغربية إلى أنها تعاني الأزمة نفسها. ويعود ذلك إلى فقدان الرؤية الاستراتيجية لبناء التربية والتعليم والثقافة والإعلام في عصر الهوية الرقمية والذكاء الاصطناعي، والافتقار للإرادة الحازمة لتنفيذها، حتى إن كانت موجودةً في بعض البلدان فإنها غيرُ صبورة وهشة، وعدم الحماس للانخراط في العصر الرقمي لدى القيادات، والافتقار للخبراء المؤهلين تأهيلا جادا لإنجازها، وضعف البنية التحتية المادية والتكنولوجية والمعرفية اللازمة لولادتها وتنميتها.
هوية جيل الألفية الجديدة رقمية، هذه الهوية وُلدت في فضاء وسائل الاتصال والذكاء الاصطناعي، تواصل الهويةُ الرقمية ولاداتِها باستمرار في فضاء الذكاء الاصطناعي المتدفق كشلالٍ هادر.
الهوية الرقمية لا تشبه أيّةَ هوية من الهويات الدينية والعقائدية والأيديولوجية والإثنية الموروثة، الهوية الرقمية سيالة في صيرورة متعجّلة سريعة التحول، لا تستقرّ على حال أبدًا، ولا تلبث في حالةٍ واحدة لسنوات، أو حتى سنة واحدة. هذا يعني أن الجيل الجديد يتفاعل بنحو مختلِف مع الهويات الرقمية وينتمي إليها بطريقته، لا كما كان يجري في الانتماء لهويات العصر ما قبل الرقمي، ما يحدث تناشزًا حادًا تزداد وتيرته وتتسع فجوته بسرعة، بين نظامِ التربية والتعليم التقليدي، والهويةِ الرقمية المتغيّرة والمتواصلةِ الولادات وإعادةِ التشكل. في عصر الهوية الرقمية يتفاقم اغترابُ الأستاذ عن التلميذ، واغترابُ التلميذ عن الأستاذ، ويُحدث ذلك تناشزًا يتضخم كلَّ يوم بينهما، وينتهي إلى المزيد من الأمية المعرفية والثقافية والرقمية، التي تنعكس في الآتي:
- إن زمانَ التلميذ يختلف عن زمانِ الأستاذ، وأعنى الزمانَ بمعناه التربوي والتعليمي والرقمي، وليس الزمان بمعناه الفيزيائي. كلُّ زمانٍ مشتقٌّ من نمطِ وجودٍ يختلف عن زمانٍ مشتقٍّ من نمطِ وجودٍ آخر. نمطُ وجودِ التلميذ في العالَم هو واقع العالَم اليوم، ونمطُ وجودِ كثيرٍ من الأساتذة في العالَم هو ماضي العالَم. أغلبُ الأساتذةِ يعيشون اغترابًا عن حاضرهم، فينحازون بثقةٍ مفرطة للماضي، وكأن كلَّ شيء في ذلك الماضي صوابٌ أبدي. القليلُ من الأساتذة من جيل الآباء استطاعَ حضورَ واقع العالَم، ومواكبةَ الذكاء الاصطناعي والعيش في الواقع، ووعي نمط وجوده في عصر الهوية الرقمية المتغيرة، واستثمار ما تقدّمه له منصاتُ الاتصال وتطبيقاتُها المتنوعة والذكاء الاصطناعي من جديد العلوم والمعارف والثقافات يوميًا.
- كلُّ نمطِ وجودٍ يفرض نظامَه التربوي والتعليمي المشتقَّ منه والمتناغمَ مع إيقاع صيرورته، وذلك النظامُ يفكّر بمنطقِ عقلانيةِ نمطِ ذلك الوجود، ويتعاطى تقاليدَه الثقافية، ويعتمد نظامَ قيمه، ويتحدّث لغتَه المتفرّدة. نمطُ الوجود في عصر الهوية الرقمية يفرض عقلانيتَه ورؤيتَه للعالم وقيمه وثقافته، لا يستطيع الإنسانُ التغلبَ عليه مهما عاند الانخراطَ في هذا العصر، أو الاحتماءَ من آثاره، والتحكمَ الكامل بحضوره الهائل. ذلك ما يدعو الإنسانَ في بلادنا لمواكبته، في سياق رؤية تتسع لاستيعاب مكاسبه، وبناء أخلاقيات تقي الإنسانَ من ارتداداته المربكة والعاصفة.
- النظامُ التعليمي الذي يعبّر عن المتطلبات التعليمية للتلميذ في عصر الهوية الرقمية، غيرُ النظام التعليمي التقليدي الذي يعرفه الأستاذُ ويتعلّمه التلميذ،كلٌّ منهما يفكّر بمنطق عقلانية العالَم الذي ينتمي إليه، ويتعاطى تقاليده الثقافية، ويعتمد نظامَ قيمه، ويتحدّث لغتَه الخاصة. اللغةُ ليست أداةً محايدة، اللغةُ تنتمي إلى منطقِ عقلانية العصر وثقافته، وذلك يعني أن الأستاذَ يفتقر لمعرفة لغة التلميذ عصر الهوية الرقمية، والتلميذ يفتقر لمعرفة لغة الأستاذ، فيكون الحوارُ بينهما بمثابة حوار الطرشان.
- العمليةُ التعليمية عملية ديناميكية وليست ميكانيكية، التلميذُ فيها يُعلِّم الأستاذ، مثلما يُعلِّم الأستاذُ التلميذَ، كلٌّ منهما مُلهِم للآخر، ومكوِّنٌ لعقله، ومولِّدٌ لوعيه، ومحفزٌ لذهنه بطرح الأسئلة وابتكار الأجوبة.
- عندما تكون العمليةُ التعليمية ميكانيكيةً تكفُّ عن أن تكون تعليمية، وتفشل في أن تظل مُلهِمةً للتلميذ والأستاذ، وتضمحل فاعليةُ الأثر والتأثير المتبادل فيها، وغالبًا ما يصاب ذهنُ كلٍّ من المعلم والتلميذ بالوهن، ويشعران بالملل والإحباط، الذي ربما ينتهي لدى البعض لشعور بالقرف وحتى الغثيان.
- تكرارُ الأستاذ المملُّ لكلامٍ لا يفقه أسرارَ اللغة التي ينجذب إليها التلميذ، ولا يدرك طبيعةَ انفعالاته ومشاعره، لا يمكن أن يمنح التلميذَ علمًا ومعرفة ووعيًا بعصر الهوية الرقمية الذي يعيش فيه، ولن يؤثر في تكوين أسئلته ومتخيّله وأحلامه وهمومه المعرفية، ولا صلةَ له ببناءِ منظومةِ قيمه، وتقاليده الثقافية. وينتهي ذلك إلى أن يتعاطى كلٌّ من التلميذ والأستاذ مع العملية التعلمية بوصفها فرضًا، كلٌّ منهما ملزَمٌ بتأديته على شاكلته، الأستاذُ تلزمه ضرورات معيشية، والتلميذُ تلزمه ضروراتٌ يفرضها تقليد مكرَّس لتعليمه، بغضّ النظر عن ثمراته ومآلاته.
- الجيل الجديد يتلقى المعرفةَ والثقافةَ والقيمَ من وسائلِ الاتصال وتطبيقاتها الكثيرة، وما تقدّمه مجانًا من موضوعاتٍ متجدّدة فاتنة جذابة، متنوعةٍ بتنوّع مراحل العمر، ومتناغمةٍ مع مختلف مستويات الإدراك والفهم والاستيعاب. تتنوع الموادُ التي تنتجها وتسوقها وسائل الاتصال لكلِّ مرحلة عمرية حسب مستوى إدراكها وتذوقها. سميراميس بنت ابنتي د. تُقى، عندما كانت بعمر سنتين، تمضي ساعاتٍ طويلةً كلَّ يوم تشاهد أفلامّا مخصّصةً لمرحلتها العمرية، يبثها اليوتيوب، ولفرط تذوقها لها وتفاعلها معها، تصرخ فزعةً لحظةَ يمنعها أحدٌ طالبًا منها الكفَّ عن إدمان ذلك.
- لا يهتم النظامُ التعليمي بالاختلاف بين استعدادت الأطفال ومواهبهم، وما يفرضه موقعهم الطبقي من تفاوت في تكوينهم المبكر. تكوين الأطفال يختلف تبعًا للإمكانات المتاحة لهم، كما كشفت عن ذلك دراسة في أمريكا عن الأثر الذي يحدثه تلقي الأطفال للغة في مرحلة مبكرة من حياتهم في بناء وعيهم ورؤيتهم للعالَم، وكيف يتناسب وعيهم مع ما يتلقونه من اللغة، فتبين وجود تفاوت فاحش في تلقي اللغة تبعًا للتفاوت الطبقي، إذ ان أبناء العوائل الغنية إذا بلغوا 4 سنوات من عمرهم يكونون قد استمعوا إلى 43 مليون كلمة، لكن أبناء العوائل الفقيرة إذا بلغوا 4 سنوات من عمرهم لم يستمعوا إلا إلى 13 مليون كلمة. والمعروف أن نضج الذهن ونموه يتناسب وامتلاك اللغة وحضورها وتفاعل الذهن معها في الصغر، فكلما كانت الحصيلة اللغوية أثرى نضج الذهن أسرع واتسعت آفاق الوعي أكثر.
- مأزق أعضاء هيئة التدريس أنهم يعيشون في عصر الهوية الرقمية وهو لا يشبه عصرَهم أمس، عصرٌ يمضي بسرعةٍ فائقةٍ إلى الأمام، لذلك ينسى هذا العصر من لم يتكيَّف معه، بل سرعان ما يمسي حضوره عبئًا عليه فيحذفه. أكثر الأساتذة عجزوا عن التكيّف مع هذا العصر، لأنهم يفتقرون للوعي العميق به، فيعجزون عن الاستجابةِ لمتطلباته ووسائله ورموزه ولغته. وأغلبُهم لا يمتلك إرادةَ التمرّد على ماضٍ شديدِ الحضورِ في وجدانهم، والسطوة على مشاعرهم. الماضي مكوّنٌ عميقٌ للاوعي الأساتذة من جيل الآباء، مازال عالقًا فيهم ومازالوا عالقين فيه.
- إيقاع التحولات أسرع من استجابة النظام التعليمي لاحتياجات الأبناء، ذلك أن وتيرةَ التبدّل في كيفية عمل الذهن أسرع من القدرة على مواكبتِه والانتقال بما يستجيب له ويتناغم معه في أنظمة التربية والتعليم، من هنا ستتسع الفجوة بالتدريج بين هذه الأنظمة وطبيعة احتياجات الجيل الجديد، التي قد يعجز عن تلبيتها حتى النظام التعليمي في البلدان المتقدمة. كما تتطلب كلُّ الأجهزة التي تعمل على وفق أنظمة الذكاء الاصطناعي تحديثًا مستمرًّا يرتقي بكفاءة أدائها،كذلك هو النظام التعليمي في عصر الهوية الرقمية، فما لم يتم تحديثه تنتهي صلاحيتُه ويخرج من التداول.
- لا غرابةَ ألا يحرص أعضاء هيئة التدريس على التكوين الأكاديمي والثقافي والرقمي في عصر لا يشبههم، وأكثرهم فشلوا في التكيّف معه. ذلك أن طرائق ووسائل وأداوات التكوين المعرفي والثقافي في عصر الهوية الرقمية تختلف عن تلك التي عرفوها وتمرّسوا بها وأدمنوا عليها أمس حتى صارت مكوّنًا لهويتهم المعرفية، لذلك نجد أكثرهم يفتقدون أيَّ حافز لامتلاك ما هو جديد.
- يُصاب الأستاذ بالملل عندما تنضب منابع الإلهام لديه، ويفتقر للطاقة المُلهِمة للاستجابة الفاعلة من التلميذ، فيفتقد الحوافزَ العميقةَ للتعليم المستمر، وتنمية التكوين الأكاديمي، والحرص على الحضور في الفضاء الرقمي ومواكبة وتيرة تطوره الفائقة. وربما يصاب الأستاذ بالقرف وهو يكرّر كلامًا لا ينتج علمًا لدى المتلقي ولا يكوّن معرفة، ولا يؤثّر في بناء وعي التلميذ، ولا يوسّع متخيّله وأحلامه العلمية.