المقصود بالتفعيل الحضاري للهوية الإسلامية هو عملية ارتقاء عملية التوتر الداخلي الفردي والمجتمعي إلى مستوى امتلاك القدرة على مواجهة تحديات التخلف، والانطلاق في عملية النهوض والتحضر. وهو ما يستلزم أن تصاغ العلوم الدينية صياغة تجعلها سهلة في الفهم، قابلة للتطبيق، مؤثرة في سلوكيات الفرد والمجتمع، بعيدا عن الصياغات الدينية النظرية([1])، أو على الأقل تقديم مواد دراسية دينية، تشتمل على خطاب إسلامي، مفهوم، يواكب الواقع، والمستجدات، ويسهل تطبيقه في الحياة العملية، أما الخطاب الديني المتخصص، والفتاوى المختلف عليها، والاجتهادات البعيدة عن الواقع، فمجالها الكليات المتخصصة، فلا يخرج إلى الفضاء العام، ليحدث بلبلة، إما لأنه خطاب متخصص في مصطلحاته واختلاف مذاهبه، أو لأنه خطاب للنخبة من علماء الدين، وليس للعامة، أو لأنه خطاب مصاغ بلغة تراثية، لا تناسب العربية المستخدمة حاليا.
إننا في أشد الحاجة للتفعيل الحضاري للعلوم الدينية الإسلامية، نظرا للهجمة الشرسة من التيارات العلمانية، وانتشار موجات الإلحاد واللادينية، فوفق بعض الإحصاءات فإن نسبة الإلحاد في العالم العربي زادت كثيرا، ويذكر أنه منذ عام 2013، ارتفعت نسبة اللادينيين من 8% إلى 13%.
وجاءت تونس في المرتبة الأولى في عدد اللادينيين بنسبة 30%، في المقابل زادت نسبة الأشخاص الذين يحافظون على صلاتهم من 42% في عام 2008 إلى 44% في عام 2021، بينما زادت نسبة الأشخاص الذين لم يصلوا مطلقًا من 17% إلى 24% خلال نفس الفترة. تُظهر كل هذه البيانات أن المجتمع يتجه نحو العلمانية، ولا بد من التفكير في عواقب ذلك([2]).
ولابد أن ندرك أن الأمر ليس وليد اليوم، فالأفكار العلمانية متغلغلة في المجتمعات المسلمة منذ أكثر من قرن، مع المد الاستعماري، وانتشار التغريب الثقافي، ونشر الفلسفات المادية، في مقابل خطاب ديني متكلس، جاف، لا يجيب عن الأسئلة الوجودية، ولا السياسية، ولا الاقتصادية، بل يكاد ينحصر في قضايا العبادات، والأخلاق، ومن هنا تأتي الدعوة إلى أهمية التفعيل الحضاري للعلوم الدينية، لتكون بمثابة التحصين المنهجي Immunity أو المنهج الوقائي Preventive ضد المشكلات والاضطرابات النفسية والاجتماعية؛ وقايةً لهم من السقوط في مشكلات من المتوقع، أن يقعوا بها، وذلك من خلال تبصيرهم بتلك المشكلات، كما يعلمهم أفضل الطرق للابتعاد عنها، وتلافي حدوثها، ومنها الغزو الثقافي والتشكيك في المعتقدات والهوية([3]).
وهو ما يستلزم صياغة المنظومة المعرفية الدينية، بشكل متدرج في المناهج الدراسية، ولا نقصد هنا منهج التربية الإسلامية وحده، وإنما تكون المعارف مبثوثة في مختلف المواد الدراسية، مما يجعل التلميذ مرتبطا بالإيمان بالله سبحانه، في مواد العلوم والأحياء، وفي التأمل والعظة من أحوال الأمم في مناهج التاريخ، وفي النظر إلى إعجاز الله في الجغرافيا، وهكذا، وبعبارة أخرى، لابد أن يكون واضعو المواد الدراسية؛ واعين لبث الروح الإسلامية، وكما يقول الفاضل بن عاشور، فإننا إذا تناولنا العلم بداعية ذاتية فطرية، يصبح العلم طريقا للدين، وأساسا للعقيدة، ولن يكون بين العلم والدين نبوة أو جفوة، فيصير كل موضوع علمي ذا صلة بالعقيدة الدينية، وأضحى الارتباط بين الدين والمعرفة العقلية، وبين علم الطبيعة، وما وراءها؛ ارتباط التفاعل والتمازج، ونشأ من ذلك اتجاه نحو الحياة، والسلوك فيها، يدفع به العامل الديني الاعتقادي في كل وجه من وجوهه، وصار الداعي الديني متجليا في بحوث العالِم، وما ينتجه الأديب، وما يصوغه الفنان، وصارت المعرفة العلمية سندا للمتكلم والفقيه، وأضحت كتب العقيدة الإسلامية-مثلا-جامعةً للمعارف الطبيعية والرياضية والإنسانية، يتجانس فيها العلم مع الدين، ويتساند العقلي والنقلي([4])، ولكن ما نجده اليوم في المناهج والمجتمع، من علمنة وتغريب، يستوجب أن نعتمد ثلاث عمليات جوهرية، عير التأسيس الصحيح للفكرة الدينية الإسلامية الصحيحة، وتمييزها عن بديلاتها المحرفة أو المزورة أو الدخيلة أو القاصرة. وفهم احتياجات الواقع المتحرك باستمرار، ومتابعة مستجدات حركته. وإدراج الفكرة الدينية ضمن حركة المجتمع، حسب احتياج الواقع، وترسيخها في الثقافة المتداولة في داخل الوسط الاجتماعي التلقائي([5]).
هذه العمليات تستند إلى أصل معرفي، ورؤية واقعية، وحركة اجتماعية، فلابد لواضع الاستراتيجية التربوية الحضارية أن يستند إلى فهم حقيقي للإسلام، بعيدا عن التأويلات والفهوم المنحرفة، التي تقدم إسلاما منزوع القيم والروح والأحكام الشرعية، على نحو ما نجده في التفسيرات الغنوصية، أو الصوفية المنحرفة المبتدعة، أو التهويمات الفلسفية، أو الرؤى العلمانية التي تقدم تفسيرا للإسلام على الهوى الغربي، ووفق المنظور الاستشراقي، الذي احتفى بما هو فلسفي وغامض وغنوصي، وأمات العقيدة التوحيدية الخالصة، وفصل الإسلام عن الحياة، وجعله مثل المسيحية الغربية محصورة في الكنائس([6])، بل يجب العودة إلى الفهم الصحيح للإسلام، على ما كان عليه السلف الصالح، مصحوبا بوعي حقيقي لتفاعل المسلمين الحضاري، ثم النظر إلى واقع المجتمعات المسلمة، ما تحتاجه، وما ينقصها، والمشكلات النفسية والأخلاقية وتهديدات الغزو الفكري والثقافي، كي يصاغ الخطاب الإسلامي في التربية الحضارية وفق متطلبات واقع حياة المسلم اليومية، ومستجداتها، وساعتها سيجد المسلم إجابات شافية لكل الأسئلة التي تدور برأسه في مجالات الحياة المختلفة.
أزمة التربية العربية المعاصرة في 8 نقاط
في ضوء ذلك، يمكن أن نحدد أزمة التربية العربية المعاصرة في النقاط الآتية:
- إن واقع المنظومة التربوية في العالم العربي والإسلامي لا يزال متأثرا وبشكل واضح بالنزعة الاستعمارية، التي ترسّخ الفكر الغربي بشكل لاإرادي في عقول الناشئة، على اختلاف مراحلهم الدراسية، وتقدم صورة مشوهة عن الحضارة الإسلامية.
- هناك حالة من الجهل بالإسلام الصحيح، وبحضارته الكبرى، نتيجة عقود متصلة من التشويه، ونتيجة تراجع الخطاب الإسلامي، الذي جاء متأخرا، غير مواكب لمستجدات العصر، وللتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، وهو ما يستلزم تحديث الخطاب.
- عندما نقرأ مفهوم تجديد الخطاب في دائرة التربية الحضارية، نجده غير مقتصر على الخطاب الإعلامي، وإنما يبدأ ويتأسس في المناهج الدراسية، التي ينبغي أن تغلف موادها الدراسية بالفكر الإسلامي: المعتقد، والرؤية، والتصورات، والمفاهيم.
- الانفتاح على الحضارات الأخرى لا يعني استلابا أو تبعية، وإنما يعني استفادة ومثاقفة وندية، ويعني أيضا اعتزازا بالهوية، فأمة تمتلك تراثا حضاريا زاخرا، ثم تتنكر له، أو تجهله؛ هي أمةٌ بلا جذور، قابلة لأن تنقاد لا أن تقود.
- لابد من استحضار التاريخ الحضاري للمسلمين، فلا يمكن تلقين الطلاب المنظور الغربي، الذي يعلي شأن الحضارة اليونانية والرومانية، ويغمط حق الحضارة الإسلامية، وإن وردت إشارات عنه فهي نتفات، تجعل تمثيل حضارة الإسلام تمثيلا شائها، لا يعبر عن القاعدة العلمية في الحضارة الإسلامية، وإنما مجرد شخصيات فردية.
- من الواجب إنهاء ثنائية التعليم الديني والتعليم المدني، فهي منقولة من النظام الغربي، الذي يحصر التعليم الديني في مدارس الكنائس، ويجعله مقتصرا على علوم الدين، أما التعليم الحي والمتقدم والحديث فهو التعليم المدني، علماني التوجه.
- إن التوظيف المعرفي للعلوم الدينية يعني تقديم علوم الدين بخطاب سهل الفهم، بلغة معاصرة، وقضايا راهنة، على أن تبقى المراجع التراثية في دائرة طلاب الدراسات العليا والمتخصصين، ومن هنا تصبح علوم الدين حية، متجددة معرفيا.
- لا يمكن للتربية الحضارية أن تتحقق، وتنزل ميدان الواقع إلا على نخبة تؤمن بها، فمن العبث أن نتخيل عقولا متغربة، تنتصر للنموذج الغربي، يمكن أن تتبنى استراتيجية التربية الحضارية، ففاقد الشيء لا يعطيه.