خِيَارُهُمْ في الْجَاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الْإِسْلَامِ إِذَا فقُهُوا” (1) ربما ينطبق هذا الحديث الشريف على شخصيات اعتنقت الإسلام، وحملت معها فعالية ثقافتها، فكانت حياتها شعلة لنشر هذا الدين، والسعي لهداية قومها، ومن تلك الشخصيات الفريدة  الياباني “تاناكا إيبي” المعروف باسم “الحاج تاناكا”، والذي اعتنق الإسلام بعدما تجاوز الأربعين من عمره، وأدى الحج مرتين، ودون رحلته للبيت الحرام في كتابه “رحلة الحج: السحاب الأبيض الطافي على صفحة الأفق.

تاناكا والإسلام

 ولد “تاناكا” في اليابان في 2 فبراير 1882، وتخرج في جامعة “تاكو شوكو”، وقضى سنوات عمره المهمة ما بين العام 1904 حتى العام 1920 في الصين، حيث عمل هناك مترجما وصحفيا.

أخذ الإسلام يطرق أبواب اليابان في نهايات القرن التاسع عشر، فقد كانت مساعي الاصلاح الياباني المعروفة بـ”عصر الميجي”(2) ومحاولات الاصلاح العثماني، يراقب بعضهم البعض، ويتابعون تقدمهم في النهوض من التعثر للحاق بالغرب، والسعي لانقاذ كلتا الإمبراطوريتين الشرقيتين من الهيمنة الغربية، وهو ما أتاح لعدد من المثقفين اليابانيين الإطلاع على الإسلام بغير تحيزات مسبقة، وبرؤية مغايرة عن رؤية الاستشراق الغربي، ومع انفتاح “عصر الميجي” على الخارج، أخذت مؤثرات الإسلام الآتية من الأتراك والصينيين المسلمين والتتار المسلمين تتسلل إلى اليابان، ومع التوسع التجاري أخذ التجار اليابانيون ينزلون الأراضي الإسلامية خاصة “اسطنبول” فنمت نخبة صغيرة يابانية ذات اطلاع على الإسلام، واعتنق بعضها الإسلام مثل الصحفي “شوتارو نودا” عام 1891م.

في بحثها عن “الحج كعلاقات دولية: حجاج يابانيون إلى مكة بين 1909-1938”(3) ترى المؤرخة التركية “سلجوق إسينبل” Selcuk Esenbel أن انتصار اليابان على روسيا في معركة ” تسوشيما ” 1905  زاد من كثافة حضور اليابان وأخبارها في الصحف المشرقية والعربية، فرأى فيها المشرقيون نموذجا للحداثة التي من الممكن أن يُقتبس منها.

ومع مطلع القرن العشرين، عرف المسلمون اليابانيون طريق الحج، ففي العام 1902 كان ” ميتسوتارو ياماوكا ” أول ياباني يؤدي الفريضة.

أثناء اقامته في الصين درس “”تاناكا” الكونفوشيوسية وأتقن اللغة الصينية، وكانت الكونفوشيوسية مدخلا لاعتناقه الإسلام، إذ كان يبحث عن قيم أخلاقية عليا منبثقة من الشرق، وتأثر بكتابات العالم الصيني المسلم “ريوكايكو” عن السيرة النبوية، وقام بترجمته من الصينية إلى اليابانية بعد إسلامه، حيث سمى نفسه “نور محمد”، يقول عن بدايات تعرفه بالإسلام:”كنت أبحث عن دربي مدة عشرين سنة .. لكني فشلت في كل شيء للأسف، فشعرت بالضعف يدب في مفاصلي، كما شعرت بأنني لا أجد من أثق به، في ذلك الوقت التقيت بمحمد النبي، ووجدت القرآن الكريم الذي نزل على محمد، ومن هنا عادت إلي قوتي، وثقتي بنفسي.

سعى “الحاج تاناكا” لإيجاد علاقة بين الإسلام وبين الشنتوية (4)، كمدخل للدعوة إلى الإسلام، وكانت الرؤية التي تحكم “تاناكا” ومجموعة من المثقفين اليابانيين المسلمين أنه ” لكي يزدهر الإسلام في اليابان، يجب أن يفهمه المواطنون باستخدام التقاليد اليابانية”، ومن ثم سعى هؤلاء أن يكون الإسلام جزءا من المشهد والواقع والسياسة في اليابان، وكان هذا مدخلا مهما لإزالة التوجس من الإسلام، وربما هذا ما سهل فهم اليابانيين الذين اعتنقوا الإسلام للجانب الروحي في الإسلام.

كان الاهتمام بآسيا واسعا في اليابان في تلك الحقبة، بسبب تنامي قوة اليابان العسكرية ورغبتها التوسعية، ومساعيها لحصار التوسع الاستعماري الغربي في القارة الآسيوية، وكانت الدراسات الصينية والآسيوية حاضرة في الجامعات اليابانية، وتناغم التوجه السياسي والثقافي الياباني مع اهتمامات “تاناكا” وجهوده لتضمين الإسلام كعنصر فاعل في السياسة الخارجية اليابانية، خاصة في التواصل مع مسلمي الصين، ومع عمل “تاناكا” محاضرًا في جامعة “دايتو بونكا”، كان أحد رواد النزعة الآسيوية الداعية لأن تكون اليابان قائدة لتحالف آسيوي واسع.

ومع العام 1924، كتب “الحاج تاناكا” رؤيته في الصحف اليابانية في كثير من قضايا السياسة الدولية التي تخص اليابان والإسلام على حد سواء، وكان مقتنعا بالعمق الروحي في الحضارات والثقافات الشرقية، ومن هذا المنطلق سعى لإيجاد روابط بين الإسلام والثقافة اليابانية والآسيوية، وكان يؤكد للسلطة في اليابان أن الإسلام مفيد لها في تقوية اليابان كإمبراطورية والتأسيس للوحدة الآسيوية.

تاناكا ورحلة الحج

بعد إسلامه عام 1924، تلقى “الحاج تاناكا” خبر سفره للحج أثناء وجوده في الصين، واستغرقت رحلته للحج ستة أشهر، وفي العام التالي أصدر كتابه الذي يلخص فيه رحلته، وقدم تعريفا للإسلام، وقصة إسلامه، وبعضا من تعاليم الإسلام، ومن الطريف أنه أرجع سبب تسميته بعنوان “رحلة الحج: السحاب الأبيض الطافي على صفحة الأفق” إلى رؤيا، فيذكر أنه رأى في منامه أنه يقف على أعلى قمة مرتفعات “بامير” Pamir ضمن جبال “هندوكوش” في وسط آسيا، لكنه لم يستطع أن يحقق هذا الحلم، وكان تفسيره لهذا الحلم، هو قدومه إلى جبل عرفات، ومشاهدة الحجيج في ملابس إحرامهم البيضاء، وكأنهم سحاب أبيض يطفو على صفحة الأفق.

في كتابه “طرائف الحجيج” يورد الدكتور “عثمان أبو زيد” حكاية عن معاناة “تاناكا” أثناء رحلته للحج، عام 1924، فقد قدم في الرحلة (95) حاجا صينيا وآسيويا في باخر إلى جدة ومنها انتقلوا على ظهور الدواب إلى مكة المكرمة، وفي ظل هذا الجو الحار الذي لم يعتادوا عليه تعرض الكثير منهم للأمراض والموت، ولم يعد منهم إلى عدد قليل .

كان رحلته للحج نموذج للكتابة الأدبية، فقد كان “تاناكا” شاعرا، وكتب عن رحلته قائلا: “الصبر يصنع الحقيقة”، وربما هذا ما جعله يصبر على المشاق، ومن أشعاره التي كتبها أثناء رحلته للحج:

1- لا يمكن أن أكتب أشعاري

2- على ظهر الناقة

3- وسط الصحراء المحرقة

4- حين أنظر إلى الصبي

5- الذي يمسك بزمام ناقتي

6- يرشدني إلى بيت الله

7- تأتي إلى مخيلتي

8- ملامح الرسول العربي

9- عندما كان صبيا صغيرا”

وفي ديسمبر 1933 سافر “تاناكا” للحج مرة ثانية، وكان مريضا، ووصل مكة في مارس العام 1934، لكنه توفي في ذات العام بعد عودته إلى اليابان.


1- متفق عليه.

2- هي فترة من تاريخ اليابان المعاصر  تمتد من 1868 حتى 1912 م، وأطلق عليها اسم مييجي، والذي يعني الحكومة المستنيرة، تلميحا للحكومة الجديد التي تولت شؤون البلاد.

3- The Pilgrimage As International Relations: Japanese Pilgrims To Mecca Between 1909-1938

4- الشنتوية: ديانة يابانية تعبد الأرواح وقوى الطبيعية، وهي مكون من مقطعين “شن” “تو” أي: طريق الأرواح، وهي ديانة وضعية اجتماعية ظهرت في اليابان منذ قرون طويلة، ولا زالت الدين الأصيل فيها، وقد بدأت بعبادة الأرواح، ثم قوى الطبيعة.. ثم تطورت إلى احترام الأجداد والزعماء والأبطال وإلى عبادة الإمبراطور، وليس لهذه الديانة تعاليم محددة، الشيء الذي جعلها تنفتح على العادات الدينية الأخرى، كما لا يوجد لها مؤسس، ولا كتب مقدسة .