استضاف برنامج الشريعة والحياة في رمضان عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر الدكتور إبراهيم الأنصاري، للحديث عن معنى الفتنة في الدين الإسلامي والمغزى من الابتلاءات التي تصيب الإنسان في حياته. وشبّه عميد كلية الشريعة علاقة الله بعباده بالحبل المعلق في رقبة العبد، وأوضح أن الابتلاءات فتنة وإشارة من الله تعالى لعبده حتى يتوب عن المعاصي ويرجع عن الأخطاء التي يرتكبها، كما اعتبر أن البلاء قد يكون من باب حث الإنسان على التقرب إلى الله، كما بين أن الفتن شيء ملازم للإنسان في الحياة.

جاء ذكر الفتن وأنواعها في مواقع عديدة من القرآن الكريم، فمنها ما وصف بأنه كقطع الليل المظلم، ومنها ماهو خفي، قد لا يشعر به المؤمن متى وكيف يقع فيه.

بعض تلك الفتن جعلها الله للمسلم أداة للتطهير والتمحيص ليميز بها الله الخبيث من الطيب من عباده ويرفع بعضهم فوق بعض درجات.

يقول الله عز وجل في كتابه العزيز : {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت– 1، 3).

في هذا الإطار تناول برنامج “الشريعة والحياة” الذي يبث على قناة “الجزيرة” موضوع الفتن، مفهومها وأنواعها وكيفية الوقاية والنجاة منها، ولإلقاء الضوء على هذه القضايا الفقهية العقدية، والحديث عن معنى الفتنة في الدين الإسلامي والمغزى من الابتلاءات التي تصيب الإنسان في حياته، استضاف البرنامج في اليوم الـ 12 من رمضان 1444 (3 أبريل 2023) فضيلة الدكتور إبراهيم الأنصاري، عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر، ورئيس مجلس إدارة “جمعية البلاغ الثقافية” وموقع “إسلام أون لاين”. والدكتور إبراهيم الأنصاري حاصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه، وأشرف على مشاريع تخرج ورسائل علمية عدة في مجال الدراسات الإسلامية، كما ترأس لجنة مراجعة مناهج التربية الإسلامية في دولة قطر، وهو من الشخصيات القطرية التي لها نشاط دعوي واسع من خلال المحاضرات والندوات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية.

ماهي الفتنة؟

يقول الأنصاري في تعريف الفتنة والفرق بينها وبين الغواية، أن أصل معنى كلمة “فتنة” هو متن الذهب، إحراق الذهب ليتبين الحقيقي من المغشوش منه، أو الرديء من الجيد، هذه العملية هي التي تسمى في اللغة “فتنة”، ثم صار هذا اللفظ يدل على التمحيص وفرز الجيد، كما أطلق أيضا على عملية الإحراق بالنار، فالتعذيب يسمى فتنة لأن فيه ما يشابه هذه العملية. فكلمة الفتنة تدل على الشدة والاختبار والفرز وعلى العذاب واستعمل أيضا فيما يؤول على العذاب، بمعنى ما يفعله الإنسان من فعل، ثم يكون مصيره العذاب وغضب الله عز وجل، يقول تعالى: “لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ” (التوبة – 48) أي الأعمال التي توصلهم إلى غضب الله.

وقال الدكتور  ابراهيم الأنصاري أن الفتنة من الموضوعات التي ركز عليها القرآن الكريم، وتناولها في 60 استعمالا، تجاوزت 45 سياقا من السياقات القرآنية، وهذه دلالة على أهمية هذا الموضوع.

وفي تحديده للفرق بين الفتنة والغواية، قال الأنصاري أن الفتنة لها اشتباه بكثير من المعاني، منها الغواية، وأيضا الابتلاء والاختبار واستعملت كثيرا في هذا المجال. أما الغواية فتختلف كثيرا عن موضوع الفتنة، فالغواية تدل على الفساد والهوى واتباع غير الشرع، وبين الكلمتين مناسبة، لأن الإنسان الذي فتن ولم ينجح في الاختبار فإن مصيره إلى الغواية.

الفتنة والخيارات الصعبة

وعن خصائص الفتن حتى يتبينها المسلم، وهل هي مرتبطة بفتن آخر الزمان الموجودة في كتاب الفتن والملاحم في الكتب التراثية؟ يقول عميد كلية الشريعة في جامعة قطر، أن الفتنة شيء ملازم للحياة، يقول عز وجل:” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ” (الملك-2) وأصل الابتلاء ملازم للحياة، وكل إنسان حي يُبتلى. والفتن أيضا ملازمة للإيمان، فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا ويتوقع أن لا تمر عليه أو تصيبه فتنة. وقوله تعالى في سورة العنكبوت: “ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ” إذن كل من ادعى أو أعلن الإيمان سيتعرض للفتنة، ولا شك أن المؤمن فتنة لغير المؤمن، وغير المؤمن فتنة للمؤمن، بمعنى أنه يوقعه في احتبار ويجعله أمام اختبارات. فعندما تقع في الفتنة تظهر أمامك اختيارات، إما أن تختار طريقا صحيحا يوصلك إلى الله عز وجل وإلى رضوانه، أو يفشل الإنسان في اختيار هذا الطريق.

ويقول الدكتور أنه دون أدنى شك أن الإنسان عندما يتعرض للفتنة تكون الخيارات التي أمامه صعبة، وقد يجد الراحة واليسر والسهولة في أن يتبع هذه الفتنة، وسيجد المشقة في أن يتصدى لها، وإذا ما اختار طريق التصدي وحقق انتصارا لنفسه سيجد نفسه أمام اختبار ثان، خاصة في قضية حكمه على الناس وحكمه على نفسه. وبالتالي موضوع الفتنة ملازم للإنسان في كل مراحل حياته، وقد يُبتلى بالخير كما قد يبتلى بالشر كما قال عز وجل:” وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” (الأنبياء-35) وكأن هذه الآية تضع الهدف من موضوع الفتن، أن الانسان يُختبر في هذه الحياة ولكن ليست هذه هي النتيجة، ليس تعرض الإنسان للفتن هو النتيجة أو الجزاء، النتيجة في آخر الآية “وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، الإنسان سيرجع لله عز وجل ليحاسب على موقفه الذي وقف فيه في هذه الفتنة، هل اختار أن يصمد ويتمسك بدينه ومنهجه بوضوح وصحة، أم أنه تنازل وفرط وأسلم الأمر.

الفتنة وقطبي السراء والضراء

ويقول الأنصاري أن الأصل في الإنسان هو أنه مأمور بأن يسير في طريق مستقيم، والحقيقة أن الله سبحانه جعل السراء والضراء كالقطبين على هذا الطريق، وينبغي على الإنسان أن يتوازن بينهما. بعض الناس لديه القوة لتجاوز فتنة الضراء، يجد فيها قوة وبطولة ورجولة وفروسية ويفرح لهذا. وحينما يبتليه الله بالسراء لا يستطيع أن يقاوم. ذكر عن بعض الصالحين أنه كان يقول “اللهم إني لا أصلح للفقر” يريد أن يكون دائما غنيا معطيا منفقا باذلا. يقول الله “بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ” (القيامة -14) فالإنسان لا ينحرف عن الجادة وهو لا يعلم، أو لم تأته النذر والإشارات، لأن الإنسان حتى عندما يحتار تأتيه الإشارات، لكن القرار في النهاية يكون صعبا. فالحق واضح لا يلتبس، ولكن بعض النفوس قد تتلجلج وتتردد في اتباعه، فتكون من أتباع الباطل. القضية ليس أن الحق غير واضح، ليس الصواب في المواقف غير واضح، الحقيقة أن الله لا يدعي الناس في عماية، هم يعرفون الصواب لكنهم يبحثون عن أعذار لأنفسهم للابتعاد عنه، سواء في الخير أو في الشر، سواء في فتنة السراء أو فتنة الضراء.

وضرب الدكتور ابراهيم الانصاري أمثلة عن فتنة السراء، باعتبار أن لها مجالات كبيرة هذه الأيام. وقال بشأن الإسراف في الحفلات (الزفاف وغيرها)، وقال أن المجتمعات أصبحت تبالغ في هذه الحفلات، هناك من يقيم حفلة لا تقوى قنوات فضائية كبيرة على تنظيمها، فيأجر معلما من معالم المدينة ويكتب اسمه على أعلى برج أو مبنى فيها..ويدفع مبالغ طائلة..ويضيف الأنصاري قائلا: وفي نقاش مع أحد الذين فتح الله عليهم بالغنى وهو ينفق في الخير كثيرا من المال، لكنه لا يتردد في أن يدفع مبلغا خياليا لإقامة حفل ما، لأن المبلغ لاشيء بالنسبة له، فهو مليارديرا ويستطيع ذلك، ثم يسأل هل هذا من الإسراف؟ فكيف يمكن أن نجيبه؟

يقول الأنصاري، صحيح أن هناك نسبة وتناسب بين الغني والفقير، وأن الغني مثلا لا بد أن يظهر بمظهر يدل على نعمة الله عز وجل، لكن هناك حد، حتى ولو تجاوزه الغني، وحتى ولو لم يؤثر عليه فهو إسراف، لأن وضع الشيء في غير موضعه إسراف. ومن علامات الساعة أن يُفتح على الناس في المال. والله تعالى يستخلف الناس لينظر كيف يعملون. الحد هو هل يشرفك هذا العمل أمام الله عندما تحاسب عليه؟

قاعدة قرآنية عن المال والتملك  

وعن اقتداء الإنسان بصحابة النبي عليه الصلاة والسلام ءفي فتنة السراء مثل أبوبكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف..يقول الأنصاري أن هناك قاعدة قرآنية ممتازة جدا يجب أن ينتبه لها الإنسان تتعلق بالمال والتملك، يقول تعالى:” كَلَّا إِن الإِنسـان لَیَطۡغَى أَن رءاهُ استَغۡنَى”(العلق 6-7)، الإنسان إذا استغنى وفُتحت عليه الدنيا، إذا جائته فتنة السراء، يطغى. وهذا هو الإشكال الذي يُخشى منه في فتنة السراء، ذلك أن الإنسان معرض أن يطغى. قارون عندما ناقشه قومه وقالوا له في سورة (القصص -76،77):” لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصیبك من الدنيا وَأحسن كما أحسن اللَّه إِلیۡك ولا تَبغِ الفَسَادَ في الۡأرضِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِب الۡمُفۡسِدِینَ”، فماذا رد قارون؟ :”قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي”(القصص -78) يقول قارون هذا جهدي. هذا هو الطغيان، ينسى أن الله عز وجا هو الذي أعطاه، وأن الله الذي أعطاه قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة، واكثر منه جمعا للمال.

وبالتالي – يضيف الدكتور الأنصاري- فتنة السراء تؤدي إلى الطغيان ونسيان الله عز وجل، وإلى توقع أن هذا المال لا ينضب، وينسى أن التغيير بيد الله، والله قادر على قلب الأحوال، وأنه أعطى هذا المال لكي يبتلي به، وعلى الإنسان أن يحسن في ما أعطاه الله تعالى.

الحكمة من الفتن في حياة المسلم

وعن الحكمة في وجود الفتن في حياة المسلم، وهل هي مجرد ابتلاء أم أداة عقاب؟ يرى عميد كلية الشريعة أن الفتن والابتلاءات مثل الدرج، فالإنسان عندما يصعد الدرج، لابد أن يبذل جهدا في كل درجة، كلما صد درجة وجد الثانية أمامه. لكن الله لايبتلي عبده بابتلاء أشد من قدرته، لكنه يبتليه ببلاء يتطلب منه بذل جهد إضافي، فينتقل إلى مرحلة جديدة من الإيمان، وبمجرد انتقاله إليها يأتيه بلاء آخر، وهكذا حتى يصل إلى الله عز وجل في مسيره.

ويضرب الأنصاري مثلا عن هذا المسير فيقول: نحن جميعا في مسيرنا لله عز وجل، وأمامنا هدف أن نرضي المولى جل وعلا، وأن ننهي هذه الحياة المؤقتة على رضوان من الله تعالى، ونحن معرضون في هذا المسير أو الطريق إلى بلاءات من الخير والشر. منا من تحثه هذه البلاءات على مواصلة السير، ومنا من تعيقه وتؤخره أو تصرفه أو تشير له بالرجوع عن هذا الطريق. هذه هي المواقف التي تحصل للناس مع البلاء.

ولذلك يرى عميد كلية الشريعة أن العقوبة لا تكون في الدنيا، دار العقوبة هي الآخرة. والبلاءات قد تكون من باب حث الإنسان ما إذا كان مقصرا، فيأتيه ما ينبهه. والإنسان طالما أنه يتنفس وعلى قيد الحياة، يدرك، يشعر، عنده فرصة ليجدد العهد مع الله ويتجاوز كل فتنة وكل مشكلة وبلاء، ويحسن السير إلى الله والعهد مع الله فهو ينجح في الامتحان.

الفتنة علامة حب أم علامة نقمة؟

وفي إجابته عن سؤال: متى نعتبر الفتنة علامة حب من الله عز وجل لعباده ومتى نعتبرها علامة نقمة وغضب من الله على خلقه؟ يقول الدكتور إبراهيم: “إذا قصمت الفتنة أو أنهت حياة الإنسان أو لنقول أبعدته بشكل غير قابل للرجوع، فهذه هي العقوبة”، ولأن الفتنة أو الزلزال مثلا يتشابه في كل مكان ويقع على الجميع، يقول الدكتور أن الإنسان مادام لم يتضرر في ذاته، فهي فتنة أو ابتلاء، بمعنى أنه حتى ولو كان الإنسان أعصى العصاه ووقعت عليه هذه الفتنة وبقي على قيد الحياة، هذه إشارة له، ولو رجع وتاب إلى الله عز وجل يتوب الله عليه مهما كانت جريمته. ويضيف أن المشكلة هي أن بعض القلوب يران عليها طول العهد من المعاصي والبعد عن الله عز وجل، فتأتي هذه المنبهات ولا تنبهه، فيزيده الزلزال سخطا على ربه وبعدا عنه، وتأتي المصيبة فتزيده نقمة على الله وعلى دينه وقدره. لكن مادامت المصيبة لم تقصم الإنسان فهي تنبيه من الله، وهي دليل على أن الله جل وعلى مازال يوري هذا الإنسان عنايته ورعايته.

وشبّه عميد كلية الشريعة علاقة الله بعباده بالحبل المعلق في رقبة العبد، فكلما أذنب أو ابتعد أو قصر في سيره يجذبه الله إليه بابتلاء يشعره ببعض الألم، إما بفقد أو بلوم للنفس، بمعنى إما أن يلوم نفسه على هذه النعم التي عنده ولم يؤدي شكرها، أو تنبيه بحادث أو خسارة مالية أو خسارة ولد أو ضرر أومرض، ولكن إذا فقد الإنسان الإحساس بهذا الجذب ولم يعد يهتم لذنوبه وبعده عن الله وتقصيره في عباداته وتهاونه في العبادات والصدقات، واطمأن كليا لما هو فيه، فمعنى ذلك أن الله عز وجل تركه لنفسه إلى أن تأتيه عقوبة واحدة تنهيه.

الخبرة في العلاقة مع الله

مواقف الناس متباينة عن وقوع الفتن، وقد ذم الله أناسا إذا أصابهم خير اطمأنوا به، وإذا أصابهتهم فتنة أو شر انقلبوا على وجوههم وخسروا الدنيا والآخرة، لكن بعض الناس لا يملكون هذا الميزان الحساس الذي يهبه الله لعباده المتقين ليميزوا الحق من الباطل والخير من الشر ويظبطوا انفعالاتهم وسلوكاتهم. فكيف ندرب أنفسنا كمؤمنين بالله حتى إذا وقعت الفتنة أو البلاء نتبينها ولا نقع فيها؟ يقول الدكتور في هذا المسألة أن هناك حقيقة يجب أن يعيها الإنسان، أنه مهما قدم من عمل صالح، فهو لم يقم بشيء من حق الله عز وجل عليه، وأنه مهما قدر الله عز وجل عليه من بلاء، فالله يظل منعما ومتفضلا عليه. هذه الحقيقة لا يطمئن إليها إلا قلب جرب كل المواقف السراء منها والضراء، وجرب التعامل مع الله. ولا يمكن لإنسان أن يجرب التعامل مع الله إذا لم يكن يسأل نفسه باستمرار من وهبه هذه النعم وماذا يريد منها، من قدر هذا البلاء وماذا يريد منه. يقول أحد الصالحين: ماأصبت ببلاء إلا حمدت الله عز وجل على أربع:

الأولى أنها لم تكن في ديني

الثانية أنها لم تكن أعظم مما كانت

الثالثة أن الله عز وجل يعقب عليها أجرا

والرابعة أن الله ألهمني الشكر والصبر فيها.

ويضيف الأنصاري أن الإنسان الذي يكلم نفسه هذا الكلام ويبني هذه العلاقة مع الله عز وجل، ويتفكر فيها دائما ويعيد لها كل مشاهد حياته، مع أبناءه في نجاحهم وفشلهم وصلاحهم وهدايتهم ومع أهله وأمواله وغير ذلك من نواحي الحياة. ويسأل نفسه دائما هذا السؤال: ماذا أراد مني الله عز وجل بكل هذه النعم وهل أنا أقوم بما أراده مني؟ لو عوّد الإنسان نفسه على هذه الأسئلة في علاقته مع الله، سيجد نفسه يكتسب خبرة في التعامل مع الله عز وجل. وليعلم الإنسان أن في توطيد العلاقة مع الله لا بد من ترك أشياء ترغبها النفس، من لم يوطن نفسه على ترك بعض الأمور التي يحبها لأجل الله عز وجل، لا يسير في طريق العبادة بشكل صحيح، بل يسير محمولا في العبادة. فالناس الذين يفعلون من الطاعات ما يحلو لهم، ويتصدقون من فضول الأموال..

قد يكون هذا جيدا، لكن إذا أرادوا أن يمارسوا الخبرة مع الله في أداء مهمتهم الأساسية في الحياة، ماذا لو يجربوا التنازل عن المحبوبات، “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون”(آل عمران-92) لن تنالوا البر حتى تتركوا شيئا من النوم اللذيذ من أجل القيام، لن تنالوا البر حتى تنفقوا من المال الذي تحبونه وتحتاجون إليه، لن تنالوا البر حتى تنفقوا من أوقاتكم وراحاتكم لأجل الله عز وجل.. هذا التوطين للنفس هو الذي يبعث في الإنسان هذه القدرة على التمييز. فكلما وقعت فتنة أو مصيبة يجد الإنسان نفسه قد تعود أن يسأل هذه الأسئلة، مثل السؤال عن حكمة الله، ولا يوجد إنسان يتساءل إلا وهو يطلب من الله عز وجل أن يدله على الحكمة، ويكشف له ما وجه الحكمة في ذلك، فإذا ما كشفت هذه الحكمة عادت نعمة من النعم. يقول ابن عطاء “ربما أعطاء فمنعك وربما منعك فأعطاك” ويقول “إذا كشف الله لك وجه الحكمة في المنع، عاد هذا المنع هو عين العطاء”.

ويقول الأنصاري أن الله عز وجل إذا أراد أن يرفعك درجة عالية فقدر عليك مصيبة. المشهد هنا أن تقع عليك المصيبة، تتساءل، تعرف أن الله عز وجل له حكمة في ذلك، يلفت نظرك إلى مرتبة في العلاقة معه، فتتشوف إليها، تعمل لها، وتصلها. فإذا كُشفت لك هذه الحكمة، ووصلت هذه المرتبة حينها تصبح هذه المصيبة أو الفتنة أو البلاء لا شيء.

صيانة الرابطة بين الإنسان وخالقه

يؤكد رئيس “جمعية البلاغ” و”موقع إسلام أون لاين” أن الرابطة بين الإنسان والله عز وجل إذا لم يحدث لها صيانة في أوقات الرخاء، تختل في وقت الشدة والفتنة. فتعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. والإنسان لا يمكنه أن يصمد في مواجهة أي فتنة إذا لم يستعد لها. الفتنة مثل الاختبار أو مثل مباراة في كرة القدم، مالم يستعد لها الإنسان استعدادا مناسبا سيتعب في مجاراتها ويتوه فيها ويخسرها. ويكون الاستعداد للفتنة أولا بالاستشعار أنها موجودة باستمرار، الاستعداد لها بتقوية العلاقة مع الله من خلال تقوية الذكر، وكثرة الاستعاذة من الفتن. بهذا الاستعداد النفسي – الذي لا يعني أن الفتن لن تقع- يقوم الإنسان بتقوية علاقته مع الله- وأيضا يتعض لما يراه من حوله.

وفي هذا الصدد أشار الدكتور ابراهيم الأنصاري إلى الزلزال الكبير الذي دمر مناطق واسعة من أراضي المسلمين، وقال أن بعض المتضريين الذين يتحدثون للقنوات التلفزيونية لديهم إيمان وتوكل قوي، فيذكر ما كان بينه و بين الله عز وجل من نعم وقوة صبر وغيره، البعض الآخر تجد لديهم جزع مما يحدث.. ويبدو أن ما يظهر في الفتنة يعكس ما كانوا عليه من قبل الفتنة، وكيف كانت علاقتهم مع الله.

وهنا توجه عميد كلية الشريعة بنصيحة إذا وقعت الفتنة بأحد ألا يشمت به أحد. لا يشمت الإنسان بمفتون، فأنت لا تعرف ظروفه ولا أسبابه ولا تدرك علاقته مع الله، ولا تريد أن تعرف أصلا، الذي تريده عندما ترى إنسان ما يُفتن، فيضل بعد هدى، أو يتنازل عن مبادئ، أو يقع في معصية، هو أن يعصمك الله من مثل عمله، وتحمد الله أن هذه الفتنة لم تقع عليك، وتدعو الله أن يعافي ويغفر لإخوانك المفتونين. وهذا جزء من تقوية الرابطة مع الله، حتى إذا وقعت الفتن عليك فلا تهزك ولا تزحزحك.

فتنة المال والبنون

يقول الله عز وجل: “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ” (الانفال – 28) يقول الدكتور ابراهيم الأنصاري عن هذا الترتيب العجيب لمراتب الفتن وتقديم الأموال عن الأولاد، أن الله تعالى قدم المال على الأولاد في سياقات متعددة، وفي سياقات أخرى عكس الأمر، ولكن عندما يتعلق الأمر بالصدود عن أمر الله يقدم المال في مسألة الفتن، لأن المال أداة إعانة وأيضا أداة تمكين للإنسان للحصول على ما يريد من معاصي. فالمال يمكّن الإنسان أكثر من الأبناء. أما إذا الأمر متعلق بالتعلق القلبي الذي قد يصد الإنسان عن طاعة الله وسبيل الله، يقدم الأبناء على المال. فحينما تكون الفتنة في القدرة على اكتساب المعاصي يقدم المال، وحينما يكون الإشكال أو الملحظ في المحبة والميل القلبي يقدم الأبناء.

وعن وجه الفتنة في الأبناء يقول الدكتور الأنصاري أن الإنسان عادة إنما ينفق المال على محبوبات نفسه، ولا يوجد شيء أحب في النفس للإنسان مثل الأبناء. فإذا كان الإنسان لديه أبناء يطلبون منه طلبات أو هو يخاف على مستقبلهم، قد يحثه ذلك على ارتكاب الكثير من المعاصي، على غرار قبول مال حرام، تقديم رشوة، غش، وساطات في الدراسة، معاداة ناس من أجلهم..وغيره. كما أن الأبناء قد يكونون سببا أمام الجبن والإحجام عن الصدع بالحق أو الجهاد، كما قد يحثون الوالد على البخل بسبب الرغبة في ادخار المال لفائدتهم فلا ينفقه في سبيل الله. وكلا الأمرين يجب على الإنسان أن يتوازن فيه حتى لا يكون هذا الولد أو هذا المال فتنة.  

تباين الفتن

وفي مسألة تباين الفتن بين فتنة المال وفتنة البنون وفتنة النساء وفتنة الجاه يقول الدكتور الأنصاري أن الناس متباينون في ميولهم وطباعهم وقدراتهم، وهذا التباين ينتج عنه إعمار الأرض وهذا التنوع في الأعمال والوظائف والمهن، ومن هذا التباين ينتج تنوع البشر في الرغبات وفي نقاط القوة والضعف عندهم. بعض الناس المال لا يغريه لكن مشكلته في النساء، وبعض الناس لا تغريه النساء ولا المال مشكلته في المنصب عندما يتسلط. والله عز وجل يقدر على الإنسان كل هذه الفتن، ولا يوجد إنسان لا يتعرض لهذه الفتن، لكن إذا كانت نقطة الضعف في المال مثلا، فإن الله سبحانه لا يعرضه كثيرا لهذه الفتنة حتى يقوى عليها، فإذا أصبح قويا عليها زاد له منها.

ويبين الدكتور أن بعض الناس عندما يستعلي على شهوة النساء يعتبر نفسه إنسان حر وشريف وقوي، لكن بعضهم يرى نفسه عندما يستعلي على شهوة المال وينفقه، لكنه يفعل ذلك لأجل أن يعجب به فلان أو فلانة.

حينما يتخلص الإنسان من الأنا، ومن أن يفعل شيئا ليرضي نفسه هو، يصبح توجهه إلى الله عز وجل، بمعنى أنه يقوم بأمر ما ليحقق العبودية الحقيقية لله سبحانه وتعالى، وكأن ذلك شغله الشاغل أو قصته في الحياة، ويصبح همه الأكبر تحقيق درجة الذلة لله في كل مناحي حياته.

ويقول الدكتور أن الإنسان حتى وإن سقط في الفتنة، فإن باب التوبة مفتوح له، باب العودة إلى الله لا يغلق أبدا، وكلما كان الإنسان فطنا متيقضا للفتن كلما كان سائرا في تعبيد طريق العلاقة مع الله، كلما كان الإنسان منتبها لهذه الفتن كان مسيره إلى الله أسرع، وكلما غفل ونسي توقف في المسير. والذي يتوقف في المسير ما علاجه؟ نذكره فيواصل المسير.

بين السكينة والحذر من الفتن  

في خضم هذه الفتن يجد الإنسان نفسه حائرا بين الحذر الدائم من الفتن التي قد يقع فيها أو تقع له، وبين السكينة التي ينشدها المسلم، فكيف يمكن التوفيق بين النقيضين؟ يقول الدكتور ابراهيم الأنصاري أن الإنسان يعيش في بداية علاقته مع الله في حالة من الغفلة، يستمتع بالدنيا ومتاعها وزينتها، فإذا بدأ في السير إلى عز وجل شعر بهذا القلق، ويصبح يتوجس من كل شيء، حتى من الجلوس مع الناس، بل حتى من كل كلمة يقولها أو لقمة يتناولها، لدرجة أن البعض يدخل في حالة من الوسوسة من هذا الأمر. قضية القلق في هذه المرحلة أمر طبيعي، وإذا ما واصل السير إلى الله فإن الله سيوصله. وينتقل من النفس اللوامة الحذرة المتوجسة إلى النفس المطمئنة التي سكنت إلى الله عز وجل.

فتنة الدعاة

أحيانا ما يقف وراء فتن الدين دعاة وصفوا بأنهم على أبواب جهنم، لكنهم عليمو اللسان وفصحاء وبلغاء وكلامهم مزين لكنه كثيرا ما يوقع المؤمنين في شراك فتنهم، هل يمكن توخي هذا النوع من الفتن.

يقول الدكتور الأنصاري أن هذه من البلاوي الكبرى التي عمت وطمت وتنوعت وأوتينا فيها من مقاتل. يسهل أن نقول فلان لا تسمعوا له، أو أن فلان مخطئ، لكن أصبح من يتزين بزي العلماء ويتعمم ويتخرج من كليات الشريعة ويتكلم بقال الله وقال الرسول، ثم يطرح نفسه على أنه مفكر إسلامي أو غيره ويطرح هذه الشبهات التي هي شبهات كثيرة ولا عاصم منها إلا التمسك بواضحات الدين، والدعاء والإنابة إلى الله أن يعصم هذا الإنسان من الفتن. وأيضا الثقة بالله والتقليل قليلا من الثقة الزائدة بالنفس (الذي قد لا يعجب أنصار التنمية الذاتية). فما أهلك أهل الفكر وأهل العلم إلا هذه الثقة المتطاولة على الحق وعلى الدين بالنفس. بعضهم تعلم كلمتين أو قرأ  كتابين فيخرج لنا ناقدا للبخاري والصحاح وعلماء الإسلام، ويعيد النظر في تاريخ المسلمين والفتوحات الإسلامية..ويضيف الدكتور أن هذه الشبه ليست شبه جديدة، لكننا في هذا العصر أصبحنا نخلط بين الشهرة وبين العلمية. وأهل العلم الراسخون ليسوا كلهم مشاهير، بعضهم لا وقت لديه للشهرة أصلا، لأنه مشغول في صومعته العلمية في قراءته وبحثه وتأليفه، يعرفه أهل العلم والمجال.

في نهاية الحلقة، توجه عميد كلية الشريعة بجملة بنصيحة للشباب خصوصا، فقال أن الشباب عادة ما يحبون الجديد ويرغبون في الثورة على المألوف، لكن هذا المألوف إذا كان مدعوما بالقرآن والسنة واستقرت عليه الأمة بعلمائها ومذاهبها لقرون طويلة..فإن الثورة عليه عبارة عن قفزة في المجهول. أما الذي يعد حقيقة تجديدا في الدين فهو مواجهة رأي معروف أنه شاذ ودعمه العرف، أو استقر عليه العرف زمنا طويلا فأصبح مسلما كأنه شرع، ودليله أنك عندما تبحث عنه في مراجع الفقه وكتب التراث لا تجد له أصلا.