أهمية السنة النبوية في تحديد المدلولات والدلالات الشرعية لألفاظ القرآن الكريم:
إنَّ كثيرًا من النصوص القرآنية جاء تفسيرها، وإيضاح مجملها، أو تقيد مطلقها، وتخصيص لعامها في السنة النبوية، فالسنة النبوية مكملة لكثير من الأحكام القرآنية، مبينة لمدلولات الألفاظ ومعانيها الموضوعية، فأقيموا الصلاة؛ أي إقامة الصلاة كعبادة، أمَّا الكيفية فلا يمكن استخلاصها إلَّا من السنة النبوية، إذًا التلاحم بين السنة والقرآن يقتضي منهجًا خاصًا يتسم بسمات القرآن والطبيعة المعرفية للنص القرآني.
فليست ذاتية اللغة العربية والأسلوب المتفرد في الصياغة وحده هو الذي يقتضي منهجًا مغايرًا ومتفردًا خاصًا، وإنَّما أيضًا المحتوى والمضمون للفظ القرآني ودلالاته عند تطبيقاته العملية، فقد ورد في الصيام قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } [البقرة: 187] فلم يكن لنا أن نعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود إلَّا من خلال حديث الرسول ﷺ:”حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عبداللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:” حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ” (البقرة: 187). قَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ: عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ، أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ”. (صحيح مسلم)
فلم نفهم الدلالة الموضوعية للخيط الأبيض والخيط الأسود إلا من خلال السنة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ التعبيرين نفسهما خارج النص القرآني لهما دلالة مختلفة تمامًا، لا علاقة لها بفريضة الصوم، هذا التعدد في المعنى، وكشف السنة النبوية عنه خاصية لاتوجد في الكتب السماوية الأخرى غير القرآن الكريم.
ونحو ذلك قوله تعالى: { لاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة:( 16-19)]. فالله يطمئن رسوله-ﷺ- في هذه الآيات، ويعده -ووعده الحق- بأنَّه سيجمع القرآن في صدره، فيحفظه دون أن يتفلت منه شيء، ويردده متى شاء بكل يسر، وسيعلمه قراءته كما نزل، وقطع سبحانه بأنه المتكفل ببيانه، ويُفَسِّرُ ابن عباس قوله تعالى: { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بقوله: “علينا أن نبينه بلسانك”، وفي رواية: “على لسانك”.
وعبارة “بيانه” في قوله تعالى: { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } جنس مضاف، فيعم جميع أصناف البيان المتعلقة بالقرآن الكريم من إظهاره وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك. ونظرًا إلى أنَّ السُّنة هي التي بينت الغامض، وفصلت المجمل، ووضحت المشكل، وفسرت المبهم، وقيدت المطلق، وخصصت العام، فهي المراد بقوله تعالى: { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فهي وحي من الله.
وهو ما يعني أنَّ قراءة النص القرآني في كثير من مواضعه، ودون ربطه بالسنة النبوية، فيما لو استخدمت تلك المناهج الحدثية [1] التي تعتمد على المناهج النقدية في قراءة النص الأدبي، ويروج البعض لصلاحيتها لتأويل وتفسير وفهم النص القرآني ستكون قراءة بلا شك ناقصة وتأويل غير مكتمل ومشوهًا للقرآن الكريم، فهو استعمال لمناهج في غير موضوعها ولغرض مشوه، فمثل هذه المناهج تعزل النص القرآني عن السنة النبوية، وعن البيئة الإسلامية للنص ذات الطابع المتميز وتعتمد على قصد المؤلف أو التاريخانية بربط النص بأسباب النزول دون عموم اللفظ أو تعتمد على ما يفهمه القارئ وفقا لما عرف بنظرية موت المؤلف.. إلى آخر هذه القراءات الغثة التي يروج لها أنصار الحداثة، من أدعياء التنوير العربي.
وقد كانت رؤية علماء المسلمين وأهل الفقه واضحة فى هذا الشأن فها هو الإمام الشافعي يقول: “كل ما حكم به رسول الله- ﷺ- فهو مما فهمه من القرآن”، ويقول ابن تيمية: ” إنَّ أصح طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنَّه قد فُسِّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موقع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنَّها شارحة للقرآن وموضحة له” [2]
وقد صدق رسول الله- ﷺ- في قوله عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: “قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القرآن وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُم”.(صحيح، رواه أحمد في المسند، وأبو داود في سننه).
وهكذا فإنَّ الدلالات الموضوعية للألفاظ القرآنية إنَّما ترتبط بالسنة النبوية، وهو ما يقتضي منهجًا يختلف كلية عن تلك المناهج التي تعول على اللفظ أو النص في ذاته أو حتى على فهم القارئ وتأويله، فضبط الدلالة واستقامتها إنَّما يرجع فيه إلى فهم سياق النص، فإن لم يكن، فمن سنة النبي- ﷺ- بأنواعها قولية أو فعلية أو تقريرية، أما اللجوء إلى هذه المناهج المشوهة وليدة الحضارة الغربية المادية فلا يفرز إلا أفكارا مشوهة بعيدة عن مقصد النص الشرعي ومدلولاته، فإن السنة النبوية هي المعول الثاني ـ بعد النص القرآني ذاته ـ لكشف دلالات ومدلولات ومقاصد النص القرآني، وهو أمر تتميز به الشريعة الإسلامية دون غيرها من الشرائع السماوية فما بالك إذا تم الاعتماد على المناهج التي وضعت في أصلها للتعامل مع النص الأدبي البشري.
والقول بغير ذلك لن نحصد منه إلا تعطل المدلول الشرعي، وتبدد أحكام الدين كلية، ولن يتحقق الغرض الأسمى من النص القرآني. لذا علينا أن نتنبه لخطورة هذه الدعوة المضللة والتي يقف خلفها روح التآمر على النص القرآني بصفة خاصة والشريعة الغراء بصفة عامة، سيما بعد أن تعالت هذه الأصوات ووجدت لها حيزا تطبيقيا نجحت من خلاله في اصدار قوانين تهدر النصوص القطعية كما حدث في أحكام المواريث في بعض البلدان العربية. والله غالب على أمره وله الأمر من قبل ومن بعد.