يعد الشيخ محمد الطبلاوي الملقب بـ”سلطان التلاوة” قامة كبيرة من قامات الرعيل الأول لقراء مصر والوطن العربي، سخّر حياته للقرآن الكريم فحفظه في العاشرة، ثم سار بعدها في درب علم القراءات والتجويد، متخذا من تلاوات الشيخ محمد رفعت والشيخ علي محمود نبراسا له. ومنذ ذلك التاريخ وهو يُمتع العالم بتلاوته للقرآن، ويمتعنا باحساسه العالي الذي تترجمه خامة صوته ووضوح معالمها.

وفي 5 مايو من عام 2020 الموافق لليوم الثاني عشر من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، قدّر الله أن تنتهي حياة آخر القراء العِظام في مدرسة التلاوة المصرية، الشيخ محمد محمود الطبلاوي الذي تحل بعد أيام الذكرى الأولى لوفاته، وهو الذي قضى سبعة عقود كاملة يمتع السامعين بحلاوة صوته الذي لا ينضب.

ولد في شعبان ومات في رمضان

ولد الطبلاوي في 14 نوفمبر 1934 الموافق ليوم الأربعاء 7 شعبان 1353 هجري، في حي ميت عقبة التابع لمحافظة الجيزة، وتعود أصوله إلى محافظتي الشرقية والمنوفية. تزوج مبكرا في سن السادسة عشرة من عمره. قرأ القرآن وانفرد وهو في الثانية عشرة من عمره بإحياء مجالس القرآن الكريم بجوار مشاهير القراء الإذاعيين قبل أن يبلغ الخامسة عشرة واحتل بينهم مكانة مرموقة.

وتوفي الشيخ الطبلاوي في شهر رمضان الماضي (مايو/أيار 2020)، بعد أن جمع أفراد عائلته على إفطار خامس يوم في رمضان كما اعتاد كل عام، وبعد أن أشرف على توزيع المساعدات على مساكين منطقته عبر جمعية خيرية تديرها ابنته، بينما لم يكف لسانه عن تلاوة القرآن المعتادة في ختمته الأسبوعية، متحاملا على آلام الشيخوخة.

وعلى مائدة الإفطار أخذ يسامر أفراد أسرته، والتفت إلى ولده الصغير عمر البالغ 10 سنوات، ودعاه إليه، واحتضنه طويلا وقبّله، ثم أوصاه الوصية الأخيرة بضرورة استكمال حفظ القرآن، لأنه سبيل النجاح والنجاة.

ومع رحيل القارئ الشيخ محمد محمود الطبلاوي، يغيب الصوت الذي وصفه الكاتب الراحل محمود السعدني بـ”عبقري التلاوة”، في كتابه الشهير “ألحان السماء” الذي يعد أحد أهم المراجع التي تؤرخ لسير وحياة قراء القرآن الكريم في مصر، على مدى قرن كامل. ويرى “السعدني” أن صوت “الطبلاوي” يذكر بالعباقرة الأوائل علي محمود، ومحمد رفعت، وأحمد ندا، والشعشاعي، ومصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، إنه حبة من السبحة العظيمة، وهو لمبة في الثريا البهية التي تجمع هؤلاء في دولة التلاوة”.

رسب 9 مرات في امتحان التلاوة

86 عاما حملها نقيب القراء الراحل فوق ظهره، لم تكن أولاها مبشرة له بأنه سيصبح ذا شأن في “دولة القرآن الكريم“، إذ رسب 9 مرات في امتحان التلاوة بالإذاعة، وفي العاشرة دعا ضاحكا “يا بركة دعاء الوالدين، يا رب اكفني شر هذه اللجنة”، فسمعه أعضاء لجنة الامتحان من خلال المكبر المفتوح دون قصد، فضحكوا وأدخلوه للامتحان ليفاجأ بنجاحه في المرة العاشرة.

كان صاحب الأسلوب الفريد الذي ميّزه عن غيره طوال عقود، يرسب في الامتحانات لعدم إلمامه بالمقامات الصوتية والموسيقية، لكنه ظل مُصِرًّا على أن يحقق حلم أبيه محمود الطبلاوي الذي رأى في المنام مَن يبشره بطفل وحيد سيكون له شأن بالقرآن.

ويؤرخ السعدني لحياة الطبلاوي قائلا: “بدأ حياته موظفا بإحدى الشركات، وكانت وظيفته هي قراءة القرآن ورفع الأذان في مسجد الشركة، ولم يحقق الشهرة التي يستحقها لأنه عجز في البداية عن الوصول إلى أجهزة الإعلام”.

ويضيف: “كان السبب في شهرته تلك التسجيلات التي سجلتها له إحدى شركات إنتاج الاسطوانات، والتي كان يتولى الإشراف عليها الشاعر مأمون الشناوي، الذي صرخ عند سماع الطبلاوي قائلاً: هذا الشيخ سيكون هو قارئ الزمن الآتي”.

شمم ريح الجنة في الكعبة

في أواخر عام 1934 ولد محمد الطبلاوي، فلما بلغ الرابعة من عمره ألحقه والده بكُتّاب المنطقة، وهنالك لاحظ الشيخ غنيم، شيخ الكُتّاب، جمال صوت الطفل قبل أن يتم حفظ كتاب الله في العاشرة من عمره، لتمر الرحلة بمنعرجات بلغت ذروتها بقراءة القرآن في جوف الكعبة، كما لم يفعل قارئ من قبل.

هذه الواقعة التي لم يفتأ الشيخ الراحل يفاخر بها محدثيه، ويقول “لقد شممت ريح الجنة حينها وأنا أقرأ القرآن في جوف الكعبة في رمضان”.

ويقال أن هذه الواقعة حدثت فترة السبعينيات حينما كان جالسا مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز آل سعود فاصطحبه معه لغسل الكعبة، ثم طلب منه القراءة بداية من قوله تعالى “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” (سورة النساء: الآية 58).

لم يتخيل إمكانية تحقق هذا الحلم ذلك الفتى القارئ الذي بدأ نشاطه قارئا متجولا في مناسبات عامة بمحافظة الجيزة وما حولها، واشتهر بحلاوة صوته وتفرد طريقته وطول نفَسه، فباتت العائلات الكبيرة تتسابق لحجزه في مناسباتها.

الاعتماد في الإذاعة ولقاء البابا

بدأت رحلة الطبلاوي مع التلاوة في المناسبات وهو في الثانية عشرة من عمره، مقابل 10 قروش لليلة (الجنيه 100 قرش وكان القرش ذا قيمة وقتها)، ثم بات يدعى للتلاوة في مآتم لكبار الموظفين والشخصيات البارزة والعائلات المعروفة، بجوار مشاهير القراء الإذاعيين قبل أن يبلغ الخامسة عشرة، وارتفع أجره إلى 5 جنيهات.

ووقعت نقطة التحول الأبرز للشيخ باعتماده في الإذاعة المصرية عام 1970م، و سجل الشيخ المصحف المرتل والمجود والمعلم، وفي حواراته المتعددة للصحف، كان الطبلاوي يؤكد أن “الإذاعة لها فضل كبير على أهل القرآن”.

كان الشيخ مشهورا قبل التحاقه بالإذاعة، التي زادته شهرة، وساعدته في السفر إلى مختلف دول العالم.

تُروَى عن الشيخ حكاية بشهود عيان، ووقعت في العاصمة الإيطالية روما، بعد ترتيل القرآن بالمجلس الإسلامي بالمدينة، دعاه البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان للقائه، فوافق على شرط واحد أن يلتقيه البابا أمام المصعد تقديرا للكتاب الذي يحمله الطبلاوي، ووافق البابا.

أما في أميركا فقد شهدت إحدى قراءاته هنالك إسلام العشرات على يديه عقب انتهائه من القراءة، كما ذكر بنفسه في أحد حواراته.

وبدا أن السبعينيات مثّلت عصر الانطلاق الكبير للطبلاوي، حيث اختير قارئا للجامع الأزهر، في تحقيق لأمل قديم ظل يراود الشيخ ويدعو الله أن يحققه، وعلم لاحقا أن وزير الأوقاف وقتها طلب كشوف المتقدمين ولم يجد اسم الطبلاوي بينها فأمر بوضع اسمه وجعله مقرئا للأزهر.

الشيخ النقيب

أصبح الطبلاوي نقيبا لـ12 ألف مقرئ في مصر، ورغم ضخامة العدد فقد أعرب الطبلاوي في تصريحات عديدة له عن أسفه لـ “فوضى” القراءة، حيث فتحت الفضائيات الباب لقراء غير معتمدين، كما لم يعد للمستمعين قارئ يعرفون موعد إذاعة قراءته فينتظرونه، كما كان الأمر سابقا.

ومع هذا العدد الكبير للقُرّاء، صار نقيبهم وشيخهم يتأسف لتردي أحوالهم المادية، وانعدام الخدمات المقدمة لهم، لذا انصرف أصحاب المواهب والأصوات الجميلة عن المجال ولم تعد الساحة تشهد بروز أصوات بروعة السابقين، بل صار معظمهم مقلدين للسابقين، ولا سيما مع اختفاء منظومة الكتاتيب التي كانت تفرز حفّاظا للقرآن، تكون من بينهم أصوات نادرة.

وفي نصائحه للمقرئين الجدد، يوصي الطبلاوي بالقرب من الله سبحانه وتعالى وبالتقوى والسخاء والزكاة عن نعمة الصوت الحسن، واليقين بأن للقرآن كرامات دون حصر.

“وإذا” بين الطبلاوي وعبد الباسط

وعندما نتحدث عن القراءة والتجويد والتلاوة، فلا بد أن العملاق عبد الباسط عبد الصمد، الذي تميزت علاقته بالشيخ الطبلاوي باعتباره من القراء الجدد بعلاقة طيبة كما يقول الشيخ في إحدى مقابلاته الصحفية.

وقد اشتهرت في السبعينيات قراءة للشيخ عبد الباسط لسورة التكوير أبدع فيها الشيخ بتنويعات صوته المبهرة متنقلا بين الآيات ومستفيدا من تكرار حرف (وإذا).. بداية كل أية. ذلك الأداء المبهر لعبد الباسط دعى الطبلاوي رحمه الله وبما عرف عنه من تميز وإصرار لأداء مختلف لنفس السورة ولكن بطريقته المميزة الخاصة، التي تعتمد بشكل أساسي على الصلابة والحدة بحيث تلامس أداء الشيخ عبد الباسط من بعيد، ولكنه حين يصل إلى الأية الكريمة (وإذا الصحف نشرت) هنا بالتحديد تبدأ شخصية الطبلاوي بالظهور، وتستمر بعمل توليفتها الخاصة بالأداء وبإظهار المزيد من جماليات الصوت حتى تصل بنا إلى نهاية السورة الكريمة.

فكأن هذا الأداء يختصر العلاقة بين هؤلاء الكبار من احترام وتنافس وود يتوج ذلك ما أقامته الإذاعة المصرية في نهاية السبعينيات من استفتاء للجمهور، حول نجاح التسجيلات القرآنية ففاز الشيخ عبد الباسط بالمركز الأول كقارئ إذاعي من الرعيل الأول، وحصل الشيخ الطبلاوي على المركز الأول كقارئ إذاعي من الجيل الجديد آنذاك.