يحتل حسن الخلق ذروة أعمال القلوب والأبدان التي تتمثل في درجات التقوى والإحسان، حيث إن الخلق الحسن يقرب المسلم إلى خالقه، ويبوؤه أعلى بيت في الجنات، حيث ينال رضا العزيز المنان في الدارين، فكان أنسب أن يصف الله خير البشر صلى الله عليه وسلم به، فقد “مدحه بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]

قال جنيد: سمي خلقه عظيما، إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى، عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق” [تفسير ابن عطية: 5/346].

وجاءت نصوص كثيرة من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم تثري أساس الخلق، وتفصل في الأجور والرغبات التي تترتب على حسن الخلق، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار». وقال: «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن»، وقال: «أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا».

وفروع الخلق أو الأخلاق كثيرة وربما تنوعت باعتبار علاقاتها وأوجه صلاتها إلى أربعة أنواع:

القسم الأول: ما يتعلق بوجوه الصلة القائمة بين الإنسان وخالقه … والفضيلة الخلقية في حدود هذا القسم تفرض على الإنسان أنواعاً كثيرة من السلوك الأخلاقي: منها الإيمان بالله لأنه حق، ومنها الاعتراف له بالكمال الصفات.

والقسم الثاني: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان وبين الناس الآخرين. وصور السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا هذا القسم تشمل: الصدق، والأمانة، والعفة، والعدل، والإحسان، والعفو، وحسن المعاشرة… والقسم الثالث يتعلق بصلة الإنسان بنفسه ، والقسم الرابع يتصل بعلاقة الإنسان مع مخلوقات غير عاقلة. [الأخلاق الإسلامية، حبنكة 1/37].

أما كظم الغيظ فهو من الآثار الإيجابية التي تتبع خصلة العفو والصفح، ودلالتهما واحدة غير أن الفرق بينهما دقيق ويمكن الإشارة إليه، فالعفو هو التجاوز عن المذنب وترك العقاب وأصله المحو والطمس. وقال الراغب: (العفو هو التجافي عن الذنب. قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ [الشورى:40]، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة:237].

وأما الصفح فهو أبلغ من حيث التجاوز وترك التأنيب، فقد يعفو ولا يصفح، وصفحت عنه أوليته مني صفحة جميلة معرضا عن ذنبه بالكلية ولذلك قال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]. [انظر: موسوعة الأخلاق الإسلامية للسقاف].

ومن أجل وسائل العفو والصفح وثمراته كظم الغيظ، لذلك وصف الله المتقين من المؤمنين، الذين وعدهم الله تعالى المغفرة منه والرحمة وجنات المقيم بالكاظمين للغيظ وذلك في قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133].

قال السعدي: (قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-،هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير.

وجاء في الحديث من رواية معاذ بن أنس الجهني  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ». [أخرجه أحمد والترمذي أبو داود بسند حسن].

وكظم الغيظ هو اجتراع الغضب واحتمال سببه والصبر عليه وعلى مرارته، وإنما حمد الكظم لأنه قهر للنفس الأمارة بالسوء.

والمقصود أن من “كظم غيظه” فحبسه وكتمه، على انه يقدر أن يمضي العقوبة على المذنب، ثم تجاوز عن إساءته، وعفا عنه، وكف العقوبة عن إمضائها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خصص له هذه الفضيلة الكبيرة وتنطبق على الإنفاذ غير العاجز، كأن يكون صاحب سلطة أو قوة أو مكانة، ممن ينفذ أمرهم، فعفا عن المسيء عند هذه المقدرة

فكان الجزاء على هذا الخلق الحسن أن الله يدعوه على رؤوس الخلائق يوم القيامة، ويشهره بين الناس ويثني عليه ويتباهى به، ويقال في حقه: يختار من الحور العين (شاء) أي: في أخذ أيهن شاء، وهو كناية عن إدخاله الجنة المنيعة، وإيصاله إلى درجته الرفيعة. [عون المعبود].

ومما أثاره الإمام الغزالي عن بعض محامد خصال الحلم وكتم الغيظ في كتابه الإحياء ما يأتي:

– قال عمر رضي الله عنه من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.

– اجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع

– وقال رجل لعمر رضي الله عنه والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه فقال له رجل يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فهذا من الجاهلين فقال عمر صدقت فكأنما كانت نارا فأطفئت.

– وقال محمد بن كعب ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.

– وكان من فقه  الغزالي حين فرق بين الحلم وكظم الغيظ فقال:

“الحلم أفضل من كظم الغيظ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا فلا يهيج الغيظ وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب وهو الحلم الطبيعي وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفا”.

ويظهر من خصلة كظم الغيظ كلفة واضحة يحتاج إلى الاكتساب والعمل والتدرب والاجتهاد، مما يجعل التحلي به صعبا، لا سيما حين تتهيأ للإنسان أسباب إمضاء الغيظ ثم يكف عنه طلبا للأجر والثواب العظيم من الله تعالى، لذلك جاء الأجر بهذا الحجم.