مقدمة: أهمية العناية بالجسم ومكانته في الإسلام

يعتبر الجسم في الإسلام أحد المكونات الرئيسة للإنسان، فهو  مأوى الروح والنفس والعقل، وبه يقطع الإنسان المفاوز ليصل إلى الأجل المعلوم المحتوم، وهو محل  أكثر الأوامر والنواهي، فبه تكون الشعائر، وبه تحتقب الجرائر والمعاصي، ولأجل ذلك أولاه الشرع الرعاية التامة من حيث العناية به إعدادا وغداء ودواء، وحذر من استعماله في المساخط والمكاره، حيث سيكون الشاهد الأبرز على العبد عند نصب الموازين: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (فصلت،20)

نظرة الإسلام المتوازنة للجسم: بين الإهمال والتقديس

إن العناية بالبدن تتوجه إلى معرفة نظرة الإسلام إليه، وكيف سلك به السبيل الأوسط بين الفلسفات الكارهة له، والتي جعلته محبس الروح، فأرهقته بالزهادة والتقلل والتعذيب كما هو الشأن في بعض الديانات الشرقية والرهبنة المسيحية، وبين النموذج الغربي القائم على تحصيل اللذة والعبادة للرغبة، ومن ثم السير في مهاوى الارتهان له تسمينا أو تنحيفا، وتجميلا أو تشويها، بل وحتى العبادة له، وكل تلك المتغيرات خاضعة لموجات الموضة التي يزهو ببريقها الفنانون ونجوم الرياضة وأبطال كمال الأجسام، حتى صارت سوق الأجسام وما يلابسها من مكملات ومجملات وآلات ترويض وطبابة وتغيير للخلقة تدار بسوق تفوق الملايين الخارقة.

الإسلام وتوازن مكونات الإنسان: الروح قائدة الجسد

جاء الإسلام ليبني التوازن بين مكونات الإنسان، فجعل الروح في أعلى الهرم، لأنها هي القائدة إلى الحياة الطيبة أو قسيمتها الحياة الضنكة، فأناط بها مدارج التزكية، وأسلم لها قيادة النفس بألا تحيد عن الحالتين المحمودتين اللوامة أو المطمئنة، وهداها لأن تقود العقل إلى الرشد ومجانبة الهوى، وبعد ذلك دعا إلى العناية بالجسم وحياطته من الفناء والذوي والمرض، وذلك من خلال:

  • الاعتدال في الغذاء: قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف، 31).
  • تشجيع الحركة والنشاط: دعا الإسلام إلى ترويض الجسم بالحركة والمشي، مجانبةً للكسل والبدانة. وقدم الحركة على الأكل، لأن أصحه من كان بعد جوع وكد ونصب، فقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك، 15).

هدي النبي في الغذاء والاعتدال

وجاءت الأحاديث تترى في تعضيد هذا المسك من الاعتدال والجمع بين الحركة والغذاء النافع، والتحذير من عبادة البطون:

  • في الحديث عن الرسول الله : “ما ملأ آدمي ‌وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه” (الترمذي، 2537).
  • وفي حديث آخر حذر النبي من مشابهة الحالة الحيوانية المصاحبة للعلف ومتابعة الغريزة، فقد خطب الناس فقال: “لا والله! ما أخشى عليكم، أيها الناس! ‌إلا ‌ما ‌يخرج ‌الله ‌لكم ‌من ‌زهرة ‌الدنيا: فقال رجل: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله ساعة. ثم قال “كيف قلت؟ ” قال: قلت: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله : “إن الخير لا يأتي إلا بخير. أو خير هو. إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم. إلا آكلة الخضر. أكلت، حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس. ثلطت أو بالت. ثم اجترت. فعادت. فأكلت. فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه. ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع”(مسلم، 1052).

إن هذه الحالة الحيوانية إذا غلبت على الناس كما هو المشهود في النمط الاستهلاكي المفرط الذي هبت رياحه من الرأسمالية المعاصرة وظهيرها الفكري الليبرالية التي تجعل السعادة في تلبية الغرائز والعبّ من اللذات ومتابعة الشهوات، وحصر النعيم في المنظور القائم، واطراح الآخرة ظهريا، وهو ما يقود إلى الأثرة والكنز والتباغض والتحاسد بين المتفاوتة أرزاقهم في الدنيا، وهو ما قاد إلى كثير من القلاقل المشهودة والمأثورة، وهو ما جرّ إلى شيوع دعوات الشيوعية التي طافت أقطار الأرض في القرن الماضي، ولا تزال.

القدوة النبوية في العناية بالجسم: اعتدال وزهادة

إن مرجع المسلم في علاقته بجسمه هي الاستنان بسنّة النبي في طعامه، فقد كان معتدلا، بل وأقرب إلى الزهادة، خاصة وأن كثيرا من أيامه كانت عسرة، وفي خوف وقلة، خاصة والعرب تتخطفهم وتحيط بهم، فكانت التربية البدنية والغذائية ذات ركن ركين في تكوين الصحابة الذين كانوا المثال والشامة في الاعتدال والرشاقة والقوام الأكمل، فكانوا يثبون على الخيل وثبا، وأثر عنهم في فتوح العراق قولهم “الغد نغلب أكلة الخبز.

صحة النبي :

وفي الحياة المسطورة للنبي لم يذكروا بأنه عانى من آلام المعدة-اللهم إلا من سم خيبر-، فكان جل بلائه من الشقيقة والصداع والحمى، ومرجع ذلك الجهد والتعب وكثرة العمل والسفر والغزو، والاهتمام بحياة الناس، فقد سأل عبد الله بن شفيق عائشة رضي الله عنها:” هل كان النبي يصلي وهو قاعد؟ قالت: نعم. بعد ما ‌حطمه الناس”. (مسلم، 732).

طعام النبي المعتدل

وتروي عائشة وباقي زوجاته رضي الله عنهن أخبار طعامه المعتدل عليه الصلاة والسلام، وكذا صيامه الدائم والمتقطع، بل وجوعه الكثير، فعن مسروق، قال: دخلت على عائشة، فدعت لي بطعام وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قال: قلت لم؟ قالت: أذكر الحال التي فارق عليها رسول الله الدنيا، والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم” (الترمذي، 2513).

وعن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: «‌ما ‌شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض» (البخاري، 4516).

 تفصيل هدي النبي في الطعام كما لخصه ابن القيم

لخص ابن القيم رحمه الله هدي النبي في الطعام بأنه: “لا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا. فأكل من الطيبات ما قُرب إليه، ولم يعب طعامًا قط. أكل الحلوى، العسل، أنواع اللحوم (الجزور، الضأن، الدجاج، الحبارى، حمار الوحش، الأرنب)، طعام البحر، الشواء، الرطب، التمر. شرب اللبن، السويق، العسل بالماء، نقيع التمر. وأكل الخزيرة، القثاء بالرطب، الأقط، التمر بالخبز، الخبز بالخل، الثريد، الخبز بالإهالة (الودك)، الكبد المشوية، القديد، الدباء المطبوخة، والبطيخ بالرطب، والتمر بالزبد.
كان هديه أكل ما تيسر، وإن لم يجد صبر حتى كان يربط الحجر على بطنه من الجوع. (زاد المعاد).

ولخص ابن القيم رحمه الله الخطة الغدائية للمصطفى عليه الصلاة والسلام، وأنواع طعامه: “وكذلك كان هديه وسيرته في الطعام: ‌لا ‌يرد ‌موجودا، ولا يتكلف مفقودا. فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم. وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه..

  • وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما.
  • وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج، ولحم الحبارى، ولحم حمار الوحش والأرنب، وطعام البحر.
  • وأكل الشواء، وأكل الرطب والتمر.
  • وشرب اللبن خالصا ومشوبا، والسويق، والعسل بالماء.
  • وشرب نقيع التمر.
  • وأكل الخزيرة، وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق.
  • وأكل القثاء بالرطب.
  • وأكل الأقط.
  • وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز والخل.
  • وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم.
  • وأكل الخبز بالإهالة، وهي الودك، وهو الشحم المذاب.
  • وأكل من الكبد المشوية.
  • وأكل القديد.
  • وأكل الدباء المطبوخة وكان يحبها، وأكل المسلوقة.
  • وأكل الثريد بالسمن
  • وأكل الجبن
  • وأكل الخبز بالزيت
  • وأكل البطيخ بالرطب.
  • وأكل التمر بالزبد، وكان يحبه.

فلم يكن يرد طيبا، ولا يتكلفه؛ بل كان هديه أكل ما تيسر، فإن أعوزه صبر حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع، ويرى الهلال والهلال والهلال، فلا يوقد في بيته نار!” (زاد المعاد، 1/ 149)

حال الصحابة والتربية الرياضية الصارمة

وكذلك صحابته عليه الصلاة والسلام، فكانت حالهم قريبا من حاله، وبعضهم عانى الجوع الشديد كما هي أخبارهم قبل فتح خيبر، وكما هو أمر أهل الصفة والنزّاع من القبائل الذين يأوون إلى المدينة، وأخبار جوعهم مستوفاة في كتب السيرة والطبقات والتراجم، ويكفي العود لحلية أبي نعيم الأصبهاني.

تحذيرات من تغير العلاقة بالجسم وظهور السمن

وقد تزاوج كل ذلك مع تربية رياضية صارمة، حيث كان المشي والجري والركض والسباحة والمصارعة والرمي وأنواع المسابقات معرفة في ضواحي المدينة وحماها، واشتهر كثير من الصحابة بالعدو والفروسية والقوة والبراعة القتالية، ولأمر ما غلبوا جموع العرب أولا، وذؤبان المرتدين ثانيا، وهزموا الجيوش المدربة والعتيدة للإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية في بضع سنوات، وذلك لأنهم فقهوا بحق شروط مقولة المؤمن القوي خير وأحب إلى الله، وطبقوا شروط الاستخلاف الحاضة على البسطة في العلم والجسم كما هي قصة طالوت.

ولقد لاحظ الصحابة الخريتون بداية انقلاب الأوضاع النفسية ومن ثم الاجتماعية في علاقة الناس بأبدانهم، وقارنوا بين الأوضاع زمن التأسيس في حياة النبي وما بعده، فعن عائشة: ” إن أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد قضاء نبيها الشبع، ‌فإن ‌القوم ‌لما ‌شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فتصعبت قلوبهم، وجمحت شهواتهم “(ابن أبي الدنيا، الجوع، 22).

وهو ما استشرفه المصطفى من انقلاب أخلاق الناس بانقلاب علاقاتهم بأجسامهم، فعن عمران بن حصين يحدث، عن النبي قال: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم- قال عمران لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه – ‌ثم ‌يجيء ‌قوم ‌ينذرون ولا يفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن» (البخاري، 6695).

ولذلك كانت البدانة مذمومة إلا لمن كانت له خلقة، أو من مضى به العمر لتأثير الهرمونات، ولذلك قال النووي:” قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم، وليسن معناه أن يتمحضوا سمانا. قالوا والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقة فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسع في المأكول والمشروب زائدا على المعتاد” (شرح مسلم، 16/ 78).

ذم عبادة البطن والتشبه بالكافرين

إن عبادة البطن ليست من خلاق المؤمنين، بل هي خلاق الكافرين المستعجلين لذاتهم في هذه الدنيا، ففي الحديث عنه :” ‌المؤمن ‌يأكل ‌في ‌معى ‌واحد، ‌والكافر يأكل في سبعة أمعاء” (البخاري، 5393).

كره الإسلام التوسع في المآكل والمشارب، واتخاذ ذلك ديدنا وعادة دائمة، وندب إلى الخشونة والتمعدد، ودعا إلى كسر الحالة الناعمة بالصوم والصدقة، ولم يضيق واسعا، فلم يذم الشبع إلا إذا زاد على الحاجة التي يكون معها الجشأ، أو العود على المعدة بالمرض، أو السمنة المفرطة الناتجة عن التوسع والإفراط في الملذات.

وقد اختلف العلماء في حد الشبع على أقوال: “فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح، فإن قدر ‌الشبع ‌يختلف ‌باختلاف ‌البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل”. (تفسير القرطبي، 7/192)

ولكن الشبع غير المداوم عليه قد يكون خاصة عند توارد المسغبة وضعف البدن، فقد ورد في الأحاديث أن رسول الله قال:” هلمي يا أم سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففتّ، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ‌ائذن ‌لعشرة، ‌فأذن ‌لهم ‌فأكلوا ‌حتى ‌شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ‌ائذن ‌لعشرة، ‌..، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا» (البخاري، 3578).

قال ابن بطال: في هذه الأحاديث ‌جواز ‌الشبع، وأن تركه أحيانا أفضل، وقد ورد عن سلمان، وأبي جحيفة أن النبي قال: إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في الآخرة، قال الطبري: غير أن الشبع وإن كان مباحا فإن له حدا ينتهي إليه، وما زاد على ذلك فهو سرف، والمطلق منه ما أعان الآكل على طاعة ربه ولم يشغله ثقله عن أداء ما وجب عليه” (فتح الباري، 9/ 568).

خاتمة: دعوة لمراجعة السلوك والعودة إلى التوازن الإسلامي

والحاصل أن الانعطاف على سوءات النمط الغربي في الإفراط في الاستهلاك وعبادة الجسد والغلو في النهم، وما يجره من بدانة وأمراض، وما يعقبه من عكوف في صلاة الرياضة بالساعات، وما يتلوه من طروق لمحال التجميل ومصحات التنحيف، مما لا يوازي في حياة البعض عشر الوقوف أمام الله رب العالمين، مما يوجب على الناس مراجعة سلوكهم والعودة إلى هدي الإسلام في التوازن الرشيد بين ضرورات الدنيا وأشواق الآخرة، وفي كل منهما خير، وخير الآخرة أحق وأبقى، كما قال تعالى:  ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ (الضحى، 4).

تنزيل PDF