بين القرآن الكريم حقيقة داء العنصرية التي تنخر في الإنسان، وما يولد من الأمراض والمشاكل في المجتمع الإنساني مثل الفساد والاستعباد والسيطرة والكبر أو الاستعلاء في الأرض، ويتجلى من منهج القرآن في عرض هذا الموضوع ومعالجته أنه راعى طريقين.

أحدهما، تناول القرآن حقيقة أصل الإنسان ووحدة بدايته، وضرورة احترام الناس بعضهم البعض، والابتعاد عن المساس بهذا المشروع الإنساني من طريق ممارسة العنصرية ضد البعض، بالإذلال أو القتل أو التشريد أو التفريق، أو التفاضل، وهذا ما تناوله الجزء الأول من هذا المقال.

وأما المسلك الثاني فيعود إلى ربط العنصرية بأصلها ومصدر نشأتها، وحين يتضح لنا هذا الأصل أو السبب المخيب يسهل علينا التشخيص والعلاج، والوقاية أنجع العلاج، وهذا المسلك الثاني هو ما يطرحه هذا المقال.

المسلك الثاني من معالجة القرآن للعنصرية

أصل العنصرية ومصدرها في الخليقة من إبليس، فهو مؤسسها وصاحب المبادئ الموهومة التي ترتبط بها، لذلك فالعنصرية ملة إبليس الملعون، والاقتناع بفكرة الفوقية والعلوية على أساس اختلاف اللون أو العرق أو اللغة أو الجنس فيه التزام بطريق الشيطان ونهجه، وهذا هو المسلك الآخر الذي اعتمده القرآن الريم في بيان وعلاج العنصرية بين الناس.

نلتمس هذا المعنى في قصة إبليس لعنه الله، حين جاءه أمرالله في جمْع من الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام، إكراما وإعظاما له، واحتراما وامتثالا لأمر الله تعالى، فامتثل الملائكة كلهم ما عدا إبليس – وكان من الجن – استنكف عن السجود لآدم ورفض امتثال أمر الله تعالى، وادعى أنه خير من آدم لأنه مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، فكفر بأمر الله، فأبعده الله عز وجل من رحمته، فأصبح شيطانا رجيما، يقول الله تعالى حكاية عن هذه الحادثة الغيبية: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)) [ص].  

أطلق على الشيطان إبليس لأنه أبلس وأقصي من رحمة الله، فصار مدحورا حقيرا، وهو بهذه الصنيعة أول من ادعى وزعم الأفضلية على العنصر الآخر، بسبب أصل مادة الخلقة، أو الذرة الأصلية التي منها بدايتهم، وكل من آدم وإبليس من خلق الله تعالى، خلق كل جنس من عناصر متعددة بعد الذرة الأصلية، وهذه المراحل خصوصا في طبيعة خلق آدم بينها القرآن الكريم، من أصل تراب وطين وحمأ مسنون، ثم الروح اللطيفة .. فامتزجت في خلقه عناصر أخرى من الهواء والماء والنور.

وفرضا لو قبلنا أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين أو التراب كما زعم بعض الفلاسفة، فهل تقتضي هذا التفضيل أفضلية الكائنات المخلوقة من هذه العناصر؟! وأغرب من ذلك أن وجدت بعض الملاحدة يصوب هذه المقولة ويختار مذهب إبليس بدون علم ولا برهان!

وقد أحسن ابن عاشور الإجابة على هذه الدعوى والظن الموهوم يقول: “والحق أن أفضلية العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر، والأجسام الإنسانية مركبة من العناصر كلها. والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوق بها الإنسان على جميع المركبات بأن كان فيه جزء ملكي شارك به الملائكة، ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملا في الأنبياء والمرسلين”

ثم اعتبر حجة إبليس داحضة وضالة فهي لا تستند على علم أو دليل، يقول: ” فليس لإبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأ الأعلى”. وأي أفضلية تبوأها من كان أصل نشأته شريفا ثم أدركت أثره الحقارة بالكبر والاستعلاء والكفر! “والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار”.

يضاف إلى ذلك أن التفضيل المطلق لا يكون للأشياء بذاتها أو بطبيعتها بمجرد الهوى والتحكم والتشهي، وإنما تنال هذه الأشياء الفضل والكمال بما خصصها الله تعالى كما أشار إلى ذلك ابن عطية.

وبين هذا وذاك علاقة قريبة أن الأشياء لا تنال الفضل ولا تتمايز بعينها وإنما بالحكمة التي يودعها الله فيها أو بالأثر الذي يترتب عليها، وهذا ما يؤكده الحديث النبوي المشهور (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبُه)!  

وبالتالي فإن العنصرية ملة ملعونة وحقيرة، شأنها شأن مؤسسها ومنتحلها! فإبليس أول العنصريين، وأول من أوجد العنصرية، عنصرية التفاضل، وعنصرية الجنس حيث أراد أن يميز ويفضل نفسه على آدم عليه السلام، فناله من اللعنة والحقارة ما بقيت الدنيا وما فيها!

أما العنصريون أتباع الشيطان من البشر فأمرهم يعظم وجرمهم يتفاقم، لا سيما حين يدرك الفرق بين عنصرية إبليس والعنصريين من البشر، كان إبليس يفضل نوعه على آدم ونوعه بزعمه، ونال جراء ذلك الطرد من الملأ الأعلى والشقاء الأبدي، أما عنصرية العنصريين من البشر فهم يفضلون أنفسهم على بني نوعهم من البشر دون مناسبة سبب أو شبهة، فمن أين التفاضل إذا؟[1]

اللهم إلا أن الأسباب التي انطلقت منها العنصريون واحدة، سواء من أبيهم الغوي الضال إبليس في القديم أو أتباع مذهبه المقلدين من بني البشر، المنظرين منهم أو الخائضين بهوى وشهوة أو شبهة، وسواء كانت العنصرية دينية أو عرقية أو قومية أو ثقافية أو الطبقة الاجتماعية، وتتلخص أسباب العنصرية كلها في علة واحدة وهي الاستكبار كما جاءت في الذكر الحكيم يقول الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة: 34]. فالشيطان خسر في هذه الدنيا بسبب الكبر لذلك اعتبر ذنبه أول معصية عصي الله تعالى بها على وجه الأرض.

قال مالك: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر، وشح آدم في أكله من شجرة قد نهي عن قربها

وهناك عادات وسمات تشترك فيها العنصريون وهي الحسد وتزكية النفس والاستعلاء أو الاستيلاء على مجموعة من الناس أو التفرقة أو الفصل العنصري على خلفية اختلاف الثقافة واللون أو البلد، والتي ناسبت ما بينها القرآن من طلبات إبليس حين أبعد من الجنة بكفره وعقوبة لعناده، يدعو إلى العجب والتأكيد على الانتماء الملازم بين إبليس والعنصريين من البشر.

هذه العادات متمثلة في حكاية القرآن الكريم عن مقولة الشيطان (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)) [الإسراء] . ومن معاني الاحتناك  في هذه الآية الاستيلاء، وهو أحد غايات ملل العنصرية المختلفة.   


[1]  الإسلام والعنصرية (21).