القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي يتحدث عن طبيعة الإنسان كما هي، لا يخفي المواقف والاستجابات المختلفة للإمكانات والقدرات والأبعاد المتنوعة في شخصيته. يكشف لنا القرآنُ مواطنَ الهشاشة وغيرها من حالات ضعف الإنسان، كما يكشف مواطنَ القوة والتفرد والتفوق على كل المخلوقات، بخلقه في أحسن تقويم، وتكريمه، واستخلافه في الأرض، وغيرها من حالات وخصائص استثنائية ينفرد فيها. نرى صورتين متقابلتين للإنسان القرآني، وهما:

أ.إنسان يتصفُ بأنه مخلوقٌ ظلوم، جهول، يئوس، كفور، وغير ذلك. يعرض القرآنُ الإنسانَ في صورة غالبًا ما يقترن ذكرُه فيها بحالات وصفات تكشف عن ضعفه، ولا تخفي آياتُ القرآن هشاشة هذا الكائن بطبيعته، إذ تعلن عن ألمه، وغروره، وطغيانه، ويأسه، وقنوطه، وسأمه، وغير ذلك من توصيفات، مثل:

{ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } (يس :77)،

{ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } (المعارج: 19)،

{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } (البلد: 4)،

{ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ } (العلق:6)،

 { إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } (العاديات :6)،

 { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } (العصر : 2)،

{ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (النساء: 28)،

 { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } (الروم: 54)،

 { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } (هود: 9)،

 { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } (النحل، 4)،

{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا } (الإسراء، 83)،

 { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } (فصلت: 49)،

{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } (الأنبياء: 37)،

 { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: 67)،

 { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (يوسف: 53).

ما نستفيده من هذه الآيات هو أن اتصافَ الإنسان بهذه الحالات يعني أن لديه إمكانيةَ الاتصاف بأضدادها. وأن القرآنَ هنا في مقامِ تعريفِ طبيعة الإنسان وتوصيفها، والإخبارِ عن طبائعه وقدراته وإمكاناته وأحواله، والكشفِ عن عجزه، وليس في مقام إنشاء إهانةٍ أو توبيخٍ أو ازدراء، ولا في مقام إنشاء معايير، أو إصدار أحكامٍ قدحيةٍ عن الإنسان.

توصيفاتُ القرآنِ لهشاشة الإنسان واقعية، يتحدث القرآن الكريم بصراحة عن عجز الإنسان بأساليب شديدة الايقاع، في أكثر من 25 موردًا نرى عرضًا مدهشًا لغُربة الإنسان وغرابته في العالَم، وقصوره وغروره وطغيانه ووهنه[1]. وبموازاة ذلك يرشدنا القرآن على أنه ‏لا يمكن ‏أن يتخلص الإنسانُ من قصوره ووهنه، وغربته واغترابه الوجودي إلا بالإيمان. ‏‏القرآنُ ينبوعٌ لن يجفَ، يتدفقُ كالشلال ليستمد منه الايمانُ جذوتَه الحية، إنه أحدُ أغزر منابع المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي، لمن يمتلك مفاتيح اكتشاف كنوز المعنى فيه، لا تنضب طاقة قيم القرآن، ولا تنتهي حاجة الإنسان إليها.

لو توفرت كلُّ حاجاتِ الإنسان المادية والبيولوجية، مثل حاجته للهواء والماء والطعام، والنوم والجنس وكل الأشياء الأخرى المماثلة، كما نرى في حياة الأثرياء المتخمين بتكديس الأشياء والإفراط في استهلاكها، فإن كلَّ هذا الاستهلاك لا يضمن لهم توفير طمأنينةَ القلب وسكينةَ الروح. يظلُ الإنسانُ محتاجًا إلى ما يؤمِن له سلامًا داخليًا، ولن يتحقّقَ ذلك إلا ببناء صلة وجودية بالله. القرآنُ مفتاح بوابة العبور إلى عوالم الملكوت وبناء صلة يقظة بالله.

مالم يتحسَّس الإنسانُ صوتَ الله في داخله لن يتخلص من الاغتراب الوجودي، عندما يموتُ صوتُ الله داخل الإنسان يموت الإنسانُ. وإن كانت “هناك فكرة شائعة، ليس فقط عند عامة الناس بل عند الكثير من العلماء أيضًا، مفادها أنَّ الإنسان هو آلة تعمل طبقًا لشروط بعينها، فهناك الجوع والعطش والحاجة للنوم وللجنس ولأشياء أخرى. لابد إذن من تلبية الحاجيات الفيزيفية والبيولوجية. وإذا لم تشبع هذه الحاجات فإن الإنسانَ يصبح عصابيٌّ أو يموتُ كما هو الشأن في حالة الجوع، وإذا أُشبعت فإن كلَّ شيء يكون على ما يرام. والظاهر أن هذا غير صحيح، فقد يحصل أن تشبع كلُّ الرغبات الفيزيفية والبيولوجية، وعلى الرغم من ذلك لا يشبع الإنسان، بمعنى أنه لا يعيش في سلام مع نفسه، بل يكون لظروف معينة جدًّا مريضًا، حتى وإن كان يمتلك ظاهريًّا كل ما هو في حاجة إليه. ما ينقصه إذن هو منشط يمكن به إيقاظ نشاطه”[2].

يخبرنا القرآنُ أن طبيعةَ الكائن البشري مادامت بهذا الشكل من الضعف والعجز والافتقار فهي لن تستغني بذاتها مهما كانت، إنها محتاجة للإيمانِ، وبناءِ صلةٍ وجوديةٍ بالله. وذلك ما يتحدّث عنه الحضورُ الواسعُ المهيمنُ لله في القرآن. إن خلاصةَ رسالة القرآن، تتمثّل في بيان حاجة الإنسان للدين، من خلال الكشف عن فقره الوجودي، مقابل الحديث التفصيلي عن كمالات الله، واستغنائه عن كلِّ شيء، ومنحِه الإنسانَ ما يفتقر إليه من حاجة وجودية، لا يستطيع بعقله وخبراته وتجاربه وحدها تأمينَ تلك الحاجة أبدًا، وذلك ما بحثتُه في كتاباتي المتنوعة[3].

عند مراجعة الكتابات العربية حول النزعة الإنسانيّة في الإسلام نراها تنسى كلَّ آيةٍ تشير إلى الإخبار عن هشاشة الكائن البشري، وغالبًا ما تهمل آياتٍ تتحدّث عن طبائعِ الإنسان وأحوالِه، وحالاتِ ضعفه وعجزه وغروره وطغيانه، فيما تنتقي تلك الكتاباتُ آياتٍ أخرى تتحدّث عن مزايا الإنسان وحقوقِه وتكريِم الله له ومسؤولياتِه.

القرآنُ كتابٌ إلهيّ لا يرسمُ صورةً مثاليةً للإنسان، كما تفعل بعضُ النصوص، ولا ينظرُ له وكأنه ملاكٌ كله محبة ورحمة وخير وحق وعطاء وسلام، وإنما يتعاطى مع الإنسان كما هو، ويتحدّث عن طبيعته كما هي، يصفها بمختلف أبعادها، ولا يختزلها في بعدٍ واحد. لا يرسمُ القرآنُ صورةً زائفةً للإنسانِ، ولا يريدُ أن يُهملَ طبيعتَه البشريةَ المتنوعة الأبعاد. القرآنُ كتابُ هداية، وهذه الغايةُ الكبيرةُ لا تتحققُ إلّا بالتعرّفِ على حقيقةِ الإنسان كما هي، والإفصاحِ عمّا لا يظهره الإنسان، أو يتعمّد إخفاءَه من مواقف متضادّة أحيانًا.

ب. إنسانٌ يتصفُ بأنه مخلوقٌ في أحسن تقويم، نفخَ اللهُ الروحَ فيه، وأمر الملائكة بالسجود له، ونص على تكريمه، وسخّر له ما في الأرض والسماء، وعلّمه الأسماء، وحمّله الأمانة، وأناط به مسؤولية الاستخلاف. وهذه صورةٌ أخرى يقترن فيها ذكرُ الإنسان في القرآن بحالات وإمكانات وخصائص تكشف عن أنه المتفوق على كل مخلوق، حيث يتفرّدُ الإنسانُ في القرآن بما يلي: