كتاب سوف يصدمك بمعلومات جديدة، وسيعصف بما هو مستقر في الأذهان، فهو يؤكد أن البيئة والتنشئة ليسا مسئولين عن الكثير من مجريات حياة الإنسان ومصيره، مُرجعا التأثير إلى الوراثة في الشكل والملامح والصفات النفسية والذكاء والصحة العقلية، ويكاد يجزم بأن الـDNA أو المخطط الوراثي قادر عن التنبؤ بما سنكون عليه مستقبلا، من خلال التنبؤ بنقاط القوة والضعف السيكولوجي في الإنسان منذ ولادته. “المخطط الوراثي: كيف يجعلنا الـDNA  مختلفين” تأليف”روبرت بلومين” (1)كتاب يناقش العلاقة بين الـDNA وعلم النفس، وقدرة الـDNA على التنبؤ بما سيكون عليه الإنسان، ومن ثم لا ننتظر ظهور أعراض المرض النفسي لنبدأ في علاجه، ولكن يمنحنا الـDNA معلومات عن الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة بالأمراض النفسية، لتكون المبادرة لعلاج المرض من جذوره البعيدة؛ بل وتحديد العلاج المناسب للشخص بناء على الـDNA.

يؤكد الكتاب أن تلك الثورة المعرفية في الـDNA ما هي إلا نتاج قرن كامل من الأبحاث العلمية الدؤوبة في مجال الوراثة، وأن تلك الأبحاث استطاعت أن تعصف بما اسُتقر عليه في علم النفس منذ نظريات “سيجموند فرويد” في أن البيئة الأسرية والتنشئة هما العامل المحوري في تحديد من نكون.

تؤكد الأبحاث أن السمات النفسية بدءا من الأمراض العقلية انتهاء بالقدرات العقلية ترتبط بالوراثة، فالأطفال يشبهون آباءهم وراثيا بنسبة 50% بما في ذلك الصفات النفسية، والأسر والمدراس تسهم بأقل من 5% فقط من الاختلافات فيما بيننا من حيث صحتنا العقلية أو الإنجاز الدراسي، ويجزم البروفيسور “روبرت بلومين”، الذي قضى أكثر من خمسة وأربعين عاما من عمره في الأبحاث الوراثية، أنه لا يعرف خاصية نفسية واحدة لا يظهر فيها تأثير العامل الوراثي.

يمتلك الإنسان ما يقرب من ثلاثة مليارات درجة على ما يسمى بـ السلم الحلزوني لـ DNA الذي يرثه الشخص عن والديه لحظة تشكله كجنين، ويتشابه البشر في حوالي 99%  من درجات الـDNA ،  وحسب الكتاب فإن الـ 1% المتبقي في سلم الـDNA  هو المسئول عمن نكون ومن سنصبح، فتجاربنا تتشكل جزئيا على أساس ميولنا الوراثية، والوراثة مسئولة عن نصف الاختلافات النفسية، فالبيئة آثارها لا تدوم، والوراثة آثارها تتجلى كلما تقدم الإنسان في العمر، والـDNA هو المسئول عن التأثير الطاغي في السمات النفسية قبل البيئة والتنشئة.

الوراثة أولا

التوريث هو القانون الأول في علم الوراثة السلوكي، فالسمات النفسية تشكلها الوراثة أولا قبل البيئة، وعُثر على تأثير وراثي كبير لكثير من الأمراض النفسية، مثل: الفصام والتوحد واضطرابات المزاج وضعف الانتباه والوسوس القهري، يشير الكاتب أنه لا يعرف سمة نفسية واحدة لا يظهر فيها تأثير وراثي، فالكثير يعتقد أن الوراثة هي المسئول الأول عن مرض سرطان الثدي لدى السيدات، رغم أن الاكتشافات الحديثة تؤكد أن ذلك المرض يمثل إحدى أقل السمات القابلة للتوريث، في حين أن الوزن ومرض قرحة المعدة من أعلى السمات المورثة إذ تقترب النسبة من 70%، كذلك فالأبحاث الوراثية تُظهر بصورة ثابتة أن أداء الطلاب في اختبارات الإنجاز الدراسي وراثية بمعدل 60%، أي أن نصف الاختلافات بين الأطفال في مدى نجاحهم المدرسي مرده إلى اختلافات الـDNA الموروثة، وهو ما يفتح الباب لفهم أفضل للنفس والمجتمع.

ومن المعلومات المهمة التي ذكرها الكتاب هي وجود أثر وراثي كبير في الطلاق، فأكدت الأبحاث الوراثية أن بعض السمات الشخصية مسئولة عن ثلث الأثر الوراثي في الطلاق، فالطلاق قد يكون مشكلة وراثية، إذ تبلغ نسبة توريث الطلاق نحو 40%، ومن ثم من الصعب العثور على تجارب نفسية خالية من أي أثر وراثي، حتى القيادة المتهورة للسيارات ذات جانب وراثي، فالوراثة مسئولة عن نصف التلازم بين الاجراءات البيئية والسمات النفسية.

يشير أغلب الباحثين أن جوهر الذكاء هو القدرة على المحاكاة العقلية، والتخطيط وحل المشكلات، والتفكير المجرد، وفهم الأفكار المعقدة، والتعلم بسرعة والتعلم من خلال التجربة، وهنا يظهر النقاش حول العلاقة بين البيئة والوراثة في الذكاء، فمثلا غالبية العباقرة لم ينحدروا من أسر عبقرية، لكن هناك أبحاث تشير إلى احتمالات وجود إزدياد لتأثير الوراثة في الذكاء، ومن ثم توجد قابلية لتوريث الذكاء.

وفيما يتعلق بالعلاقة بين الوراثة والمرض النفسي، تؤكد الأبحاث أن الجينات مسئولة عن إعاقة القراءة والقدرة على القراءة، ومسئولة عن توريث الاضطرابات النفسية، و الـDNA مسئول عن احتمال عرضة بعض الأشخاص لأمراض نفسية أكثر من غيرهم، فهو أحد وسائل التنبؤ بالاضطرابت النفسية بدلا من الانتظار لحين وقوعها، وتصبح المهمة الجديدة هي البحث عن الأسباب وليس وصف أعراض المرض النفسي، ويلاحظ أن المخاطر الوراثية عامة في جميع الاضطرابات النفسية، خاصة الاكتئاب والقلق والفصام، أما البيئة فعادة ما تكون مسئولة عن اضطراب معين، ومن ثم تصبح الجينات مهمة في فهم مسار العلاقة بين الدماغ والسلوك.

التربية والوراثة

“الجينات أهم ما يعطيه الأبوان للأبناء” هكذا يؤكد البروفيسور “بلومين”، وبناء على ذلك وجه المؤلف انتقادات لكتب تربية الأطفال الأكثر مبيعا معتبرا ذلك نوعا من “الخدع التسويقية”، على اعتبار أن تربية الأهل أقل أثرا مقارنة بالوراثة، فأكثرمن نصف الاختلافات بين الأطفال ترجع إلى اختلافات الـDNA الموروثة، أما بقية الاختلافات فمردها إلى التجارب العرضية، فالأطفال ليسوا كتلا صماء من الصلصال يستطيع الأهل تشكيلها بكل سهولة، يقول الكتاب صراحة:” الأهل ليس لهم أثر منتظم يذكر في الحصائل التي يحققها أطفالهم، باستثناء المخطط الوراثي الذي توفره لهم جيناتهم” فالتجارب الحياتية لا تُحدث فرقا في المدى البعيد، لأن أثر التجارب غير مستقرة بمرور الزمن، والأطفال في النهاية يعودون إلى مسارهم الوراثي، لذا من الصعب تحقيق النجاح مالم تكن الرغبات منسجمة مع توجهات الشخص الوراثية، فالضغط على الأطفال في الاتجاه المُعاكس هو نوع من المخاطرة قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بالأطفال.

يخلص كتاب “المخطط الوراثي” إلى أن الوراثة توفر فرصة للتفكير في التربية بطريقة مختلفة، فبدلا من محاولة قولبة الأطفال على صورة ما، فإن الآباء قد يساعدوا أطفالهم للحصول على ما يرغبون في فعله وما في استطاعتهم إتقانه، ومن ثم مساعدتهم ليكونوا من هم، ويصبح الاقرار بالتأثير الوراثي قادرا على انتزاع الكثير من مسببات غضب الآباء من أبناءهم، لذا لابد من الاعتراف بالاختلافات الوراثية واحترامها، وهو ما يخفف الشعور بالذنب في نفوس الآباء تجاه أطفالهم في حال التقصير، وهو ما يحرر الآباء الأمهات من عقد الذنب، لهذا ينتقد الكتاب ما تروجه كتب الارشاد التربوي، والتي تزعم أن خطأ واحدا في التربية قد يدمر الطفل إلى الأبد.

يشير الكتاب أن المدارس مهمة في تنشئة الأطفال لكنها لا تُحدث فروقا كبيرة في أداء الطلاب مالم تكن التأثيرات الوراثية فاعلة، لهذا فإن بعض الأطفال قد يكونوا في أسوأ المدراس، لكن أداؤهم قد يكون أفضل من نظرائهم في أرقى المدارس، وذلك بتأثير الوراثة، فتأثير البيئة والأسرة والمدرسة مسئولون عن 20% فقط من التباين في الانجاز في سنوات الدراسة، وعن 10% من الأداء الأكاديمي في الجامعة، وآثار البيئة ما هي إلا انعكاسات للاختلافات الوراثية، وحسب الكتاب فإن المدرسين ليسوا نجارين أو بستانيين قادرين على تشكيل الأطفال كيفما يريدون.

وتبقى الحقيقة أن الوراثة تشكل جزءا كبيرا في فهمنا لمن نكون، ورغم ذلك فالتوريث ليس قدرا يفرض الاستسلام له، فمثلا لو هناك ميل وراثي إلى الاكتئاب، فإنه يمكن التغلب على هذا القدر بصعوبة في بعض الحالات، لكن النصيحة التي يتركها الكتاب هي ضرورة الاصغاء للهمسات الوراثية.


[1] ترجمة نايف الياسين، والصادر عن عالم المعرفة بالكويت في يونيو 2022 في 308 صفحة.