إن الله تعالى قد جعل الحياة الدنيا دار ممر إلى دار مقر، ومزرعة للأعمال، وفرصة للإمهال، ليتزود العقلاء من الناس منها بصالح الأعمال إلى دار القرار.

فالأيام تمضي، والسنون تنقضي، والأعمار تنتهي، ولا يبقى إلا العمل بعد انقضاء الأجل سبباً للسعادة أو للشقاوة في حياة سرمدية لا تنتهي أبداً.

على أن كثيراً من الناس غافلون عن عمل الليل والنهار فيهم، وهما المطية التي يركبونها إلى الآخرة. فلا يفكرون في وجهة سفرهم، وكم قطعوا في مسيرتهم، وكم قد بقي للوصول إلى مثواهم الأخير في القبور. وهذا الصنف من الناس لا يتعظون بمرور الأيام، وهم في حكم الغافلين النيام، لا يستقظون إلا عند مفاجأة الحِمَام([1]).

والعَجَبُ أن يوقن الناس بالزوال وعدم البقاء، لأنهم يرون الموت رأي عين، ولكن أفعالهم تأبى الاستعداد لما بعد الموت، فيستجمعون قواهم في بناء الزائل الفاني، ويهدمون الدائم الباقي.

وفي هذا العصر بالذات الذي انفتحت فيه الدنيا على الناس، وافتتن كثير منهم بزخارفها وبهارجها، لم تعد عقولهم تفكر في الموت وحتمية الرجوع إلى الله تعالى: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبيـن } [سورة الأنعام: 62].

إن الموت حقيقة كبرى يذوقها كل حيِّ، لا مناص من لقائه، ولا شيء في الدنيا يُنجي من هجمته. قال تعالى: { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } [ سورة العنكبوت: 57].

وعن أُبَيِّ بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله e إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: “يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه…” (الحديث)([2]).

ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله e قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات([3])، يعني الموت.

ولأجل ذلك، وجب على المسلمين أن تستيقظ هممهم، وتستعد نفوسهم، فيجعلون الموت نُصْبَ أعينهم، ويهيأون زاد النجاة، وعُدَّة السلامة للقاء الله تعالى.

وأما الغافلون عن هذا المصرع الرهيب، والظالمون والمستكبرون، فما أشد مصيبتهم، إذ كانوا في الدنيا في غيِّهم وضلالهم وعمرتهم ساهون، ليس للهوهم نهاية، وليس للعبهم غاية، إذ يحسبون أنهم غير متحول عنهم نعيمهم وفرحهم، أو زائل عنهم ترفهم ولهوهم.

فما حالهم حين يُبغتهم هاذم اللذات، وتنزل بهم سكراته، وتحلُّ عليهم آلامه: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملآئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } [الأنعام: 93]. ماذا سيقولون؟ كيف ينجون؟ إنهم في تلك الحالة يتمنون الرجوع إلى الدنيا، لأن بضاعتهم كاسدة، وأيديهم من تقديم عمل مُنْجٍ خالية: { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } [ سورة الأنعام: 27].

ومقطع الحق هاهنا أن وراء الموت دارين لا ثالث لهما: الجنة والنار، فيهما نهاية رحلة الدنيا، وموطن الاستقرار والقرار، وفيهما تحط الرحال، وتوضع عصا التسيار.

وفي تينك الدارين تظهر نتائج أعمال الدنيا، وتنكشف الحقائق كما هي، وهناك الحياة التي لا موت بعدها، والعمر الذي لا أمد ولا نهاية له، وفي هذا تتجلى سعادة الأبد أو شقاوة الأبد: { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير } [ سورة التغابن: 9-10].

وعلى العموم: إن الوجهة إلى الآخرة طريق أبلج كفلق الصبح، أوضح من الشمس في رابعة النهار، والمصير بيِّن معلوم، فالسعيد من اتعظ بغيره، وانتبه من رُقاد الغفلة، وتحرَّك من سكون الهِمَّة، وشمَّر عن ساعد الجِدِّ، ليكون من الناجين الفائزين: { يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم } [سورة الشعراء: 88 – 89].