إن بناء الأعمال والأقوال وصحتها وقبولها قائم على صحة النية وحسن القصد. ويُعد فهم مفهوم تعدد النيات في العمل الواحد من أهم ما ينبغي للمسلم العناية به لتحقيق هذا المقصد. وتقول القاعدة الفقهية: “لا ثواب إلا بالنية”.
النية ركيزة الأعمال وأساس الثواب
وشهد بذلك نص حديث نبوي مشهور: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”[1] . فدل الحديث على أن القلب هو محور الأعمال من الأقوال والأفعال، وإليه نظرة الله تعالى من عباده. ولذا اتخذ الفقهاء محل القلب للتجارة؛ تجارة لا يتأففون ولا يخافون من كسادها أو قلة أرباحها فضلاً عن خسارتها، بل به تتضاعف الحسنات وتتزايد الأجور من غير تعب، حيث تنقلب العادة عبادة ويُجعل العمل الصغير كبيراً، بناءً على مدى التفقه في معاني النيات وأبعادها. حتى قال قائلهم: “إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية، وحتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء.” [2] وقال أحد كبارهم: “فأحتسب نَوْمَتِي كما أحتسب قَوْمَتِي.” [3]، وهكذا حال تجار النيات، أصحاب تعدد المقاصد والحسبة في جميع الأعمال المباحة.
وقال النبي ﷺ: “إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللُّقْمَة ترفعها إلى فِي امرأتك “.[4] فينبغي للمسلم إشراب قلبه تعاطي أفعال الطاعات في العمل الواحد كي يتضاعف لديه رصيد الحسنات، فتزداد بذلك درجات الإيمان، وتكتمل لذة العبادات، حتى منتهى غايات النعيم.
ما لا يجوز فيه تشريك النيات: ضوابط فقهية
من المقرر أنه يحرم تشريك الرياء في الأعمال الصالحة، لكونه موجباً للإثم ومحبطاً للعمل، لا سيما إذا كان الرياء مقروناً بالنوايا من أصل العمل، أو أن يشوب العمل المداهنة والمجاملة ونحوها، كمن أطال الصلاة إرضاءً لبعض الناس وتزلفاً، مما يدل على فساد القصد والعمل وثبوت الإثم.
وهذا في جانب أثر النية في الخلاص وعاقبته في الآخرة. وهناك جوانب أخرى لها تعلق بالفقه، والتي لا يستقيم تشريك النيات فيها. فملخصها في الضابط الآتي:
الضابط الأول: الأصل في العبادة المقصودة لذاتها منع التشريك مع نظيرها
أي: كل عبادة مكتوبة، أو مسنونة موقوتة بزمانها، فإنه يمنع جريان تعدد النيات فيها (مع عبادة أخرى مقصودة لذاتها). وتوضيح ذلك فيما يلي:
- في الصلاة: لا يجوز التشريك بين المكتوبات، فلا يتجه ولا يصح الجمع بين الظهر والعصر بنية واحدة. وكذا لا قابلية للتشريك في السنن الراتبة، سواء بين نظائرها أو مع الفرائض. لو نوى صلاة الظهر مع راتبتها لم تصح، ولو نوى بالسنة القبلية مع البعدية بنية واحدة لم تصح؛ لأن كل منها عبادة مستقلة مقصودة.
- في الصيام: لا يصح دخول نية صيام رمضان مع القضاء أو النذر، بل لا بد من القيام بكلٍ على حدة.
- في الزكاة: لا يجوز الجمع بين زكاة المال وقضاء الدين، أو الجمع بين زكاة الزرع وإطعام المساكين في الكفارة، أو بين زكاة الأنعام وهدي التمتع والقران أو دم ارتكاب محظورات الإحرام مثلاً؛ إذ كل منها عبادة مقصودة لذاتها.
- في الحج: يمنع الجمع بين نيتي إحرام فريضة الحج والنذر، أو أن ينوي لنفسه ولغيره في حجة واحدة.
وهكذا الضابط في كل عبادة مفروضة أو مقصودة لذاتها خلافاً لسائر العبادات، ويُستثنى من ذلك الجمع بين الحج والعمرة.
ما يسوغ فيه تشريك النيات: أبواب الخير في العبادات المطلقة
تتنوع أشكال العبادة غير المقصودة لذاتها، قد تكون في الأسباب أو الوسائل أو مطلق الطاعات، حيث تكون النية فيها غير مقيدة، ولذا تكون صالحة لنطاق تعدد النيات في العمل الواحد.
الضابط الثاني: كل عبادة مطلقة أو غير مقصودة لذاتها يسوغ فيها التشريك
ومن صورها:
- في الوضوء: لو نوى بوضوئه رفع الحدث، والتبرد، وتلاوة القرآن، وطواف البيت، وسنة الوضوء، وصلاة الظهر، فإنه يصح له ذلك كله.
- في الغسل: يجوز اجتماع نية إزالة النجاسة والتنظف وغسل الجنابة والجمعة والعيد ونحوه، وهنا اجتمعت أسباب متعددة للغسل فتصح فيها نية واحدة.
- في الصلاة: يصح اندراج عبادة غير مقصودة في المقصودة، مثل دخول نية صلاة تحية المسجد أو الاستخارة مع الفرض، أو مع النفل المطلوب لذاته. فتحية المسجد ليست مقصودة لذاتها ولذا يصح دخولها مع أي صلاة أخرى، وكذا صلاة الاستخارة.
وكذا جاز الجمع بين نية الصلاة ونية تعليم الناس، أو الصلاة ونية مراجعة الحفظ من أجل المسابقة أو الاختبار. أو أن يجمع بين نية الخروج من الصلاة والتسليم على المأمومين – أو الإمام – بتسليم واحد.
وقيل: لو اجتمع العيد والجمعة، فإنه لا يلزم حضورهما معاً في حق المأموم، لو حضر إحداهما سقط عنه وجوب حضور الأخرى، وله أن يصلي الجمعة ظهراً، نظراً لاجتماع عيدين في اليوم فجاز دخول أحدهما في الأخرى، ولوجود مجموعة الآثار المأثورة في تجويز ذلك. بل نُقل عن الإمام أحمد إجزاء صلاة الجمعة عن صلاة العيد إذا صُليت في وقت العيد لحصول مقصود الاجتماع، وإن كان الراجح والأولى حضور الصلاتين معاً، تمسكاً بكون كل منهما عبادة مستقلة، وخاصة الجمعة التي أدلة وجوب حضورها متواترة، فلا ينبغي إسقاطه إلا بدليل مقنع واضح. - في الصيام: جاز دخول مطلق التطوع في صيام الواجب، حيث لو ضم نية صيام يوم عرفة مع صوم النذر، أو جمع نية صيام يوم الاثنين مع نية قضاء رمضان، فإنه ينعقد التشريك عند أهل العلم.
كما أنه لا مانع من الجمع بين نية عبادة الصيام ونية تحصيل الفائدة الصحية والحمية مثلاً، لعدم وجود التعارض بين الأمرين. - في الزكاة: يجوز التصدق بالمال للأقارب بنية الزكاة الواجبة، مع نية رجاء ثواب صلة الرحم. وكذا لو تصدق بصدقة ينوي بها الشفاء ودفع البلاء مع رجاء الأجر جاز.
- في الحج: يصح تداخل طواف القدوم أو التحية في طواف العمرة، وطواف الوداع في الإفاضة لاتحاد المقصد.
ولو نوى مع الطواف بالبيت نية التداوي فلا بأس، كأن ينوي مع الطواف خسارة دهون الجسم أو بقصد الوقاية من الأمراض المزمنة مثلاً فلا بأس.
وقيل بجواز الجمع بين الأضحية والوليمة في ذبيحة واحدة بنية واحدة، لأن المقصود من الوليمة مطلق الإطعام والتقرب إلى الله تعالى، فتجزئ الأضحية عنها.
فمزاحمة النيات في عبادة غير مقصودة على الرحب والسعة عند أهل العلم، ومن ثم قيل: “النيات تجارة العلماء“. وقد يوجد الاختلاف بينهم عند التطبيق والنظر في بعض المسائل، إلا أن هذا الأصل لم يزل حاضراً في أذهانهم وتصرفاتهم.
خاتمة: استثمر في نياتك لمضاعفة أجرك
إن فهم مفهوم تعدد النيات في العمل الواحد يفتح للمسلم أبواباً عظيمة لمضاعفة الأجور والثواب. فباستحضار النوايا الصالحة والمتعددة، يمكن أن تصبح الأعمال اليومية والعادات مصدراً للحسنات، مما يرتقي بالعبد في درجات القرب من الله. فليحرص المسلم على أن يكون من هؤلاء التجار الرابحين بنياتهم.