يقول الإمام محمَّد عبده في المقدِّمة الافتتاحية لـ “تفسير المنار”: “إنَّما يَفهم القرآن ويَتفقَّه فيه من كان نُصْب عينِه ووجهة قلبه في تلاوته – في الصَّلاة، وفي غير الصَّلاة -؛ ما بيَّنهُ اللَّه تعالى فيه من موضوعِ تنزيلِه، وفائدةِ ترتيلِه، وحِكْمَةِ تَدَبُّرِهِ من علمٍ ونورٍ، وهدىً ورحمةٍ، وموعظةٍ، وعبرةٍ وخشوعٍ وخشيةٍ، وسُنَنٍ في العالَم مُطَّردة؛ فتلك غايةُ إنذارِه وتبشيره، ويلْزَمُهَا – عقلًا وفطرةً – : تقوى اللَّه بترْك ما نهى عنه، وفعْل ما أمر به بقدر الاستطاعة؛ فإنَّه كما قال: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ).[البقرة: 2]

ولقد كان من سُوء حظِّ المسلمين، أنَّ أكثر ما كُتب في التَّفسير يشْغَلُ قارئه عن هذه المقاصد العالية، والهداية السَّامية :

فمِنْها ما يشْغَلُه عن القرآن بمباحث الإعْراب وقواعد النَّحْو، ونُكَتِ المعاني ومُصطلحات البيان.

ومنها ما يصْرفه عنه بجدل المتكلِّمين وتخْريجات الأصوليين، واسْتنباطات الفُقهاء المقلِّدين، وتأويلات المتصوِّفين، وتعصُّب الفرق والمذاهب بعْضها على بعض.

 – وبعْضُها يلْفِتهُ عنه بكثرة الرّوايات وما مُزِجَتْ به من خُرافات الإسرائليات.

 – وقد زاد الفخْر الرَّازي [ت 606هـ] صارفًا آخر عن القرآن؛ هو ما يُورده في تفسيره من العلوم الرِّياضية والطَّبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملَّة (…)، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصْر وفنونه الكثيرة الواسعة”.

وقد آثرنا من جانبنا أن نفتتح مقالتنا هذه بهذا النصّ المفتاحيّ – على طوله النِّسبيّ-؛ لأنَّه يعدُّ بمثابة “مقدِّمة منهجية” وضعها الأستاذ الإمام؛ كي يوضِّح لنا الطريقةَ المثلى في فهم القرآن أولا، ويُبيِّن لنا منهجه الخاص في ذلك الموضوع ثانيا، ويتعرَّض بالنقد لجملة التفاسير التي سبقته ثالثا؛ والتي حالت – في رأيه – دون فهم القرآن الكريم، بعد أن “صَلُحتْ أنفُس العرب بالقرآن؛ إذ كانوا يتلونه حقَّ تلاوته في صلواتهم المفروضة، وفي تهجُّدهم، وسائر أوقاتهم”.

ضمن هذا السِّياق يقول تلميذه محمَّد رشيد رضا، بشأن “تفسير المنار” في كتابه : “الوحي المحمدي” : “إنَّ تفسير المنار قد أُلِّف لاسْتدراك هذا التَّقصير في كتب التَّفسير، ولكنه لا يُدَرَّس في المدارس، ولا يُعْتَمد عليه في التَّربية، ولا يَخْطُر في بال مَنْ لم يقرأه أنه يجد فيه بيان كلِّ ما تحتاج إليه الأمَّة لتجديد حياتها ومجدها، ولا لدفع الغوائل عنها، ويوشك أن يكون أكثر من اطّلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما أُلِّف لأجله من الإصلاح والهدى، وتجديد ثورته الأولى، وإنِّما لكُلِّ امرئٍ ما نوى”.

وحتَّى يقطع الإمامُ محمد عبده الطريقَ أمام مُنتقديه، أخذ يُوضِّح – في الفقرات اللاحقة من مقدِّمة تفسير المنار – الفارق الجوهريَ بين ما يمكن تسْميته بـ “علوم الوسائل”، وبين “علوم الغايات”؛ وهو ما عبَّر عنه بالقول : “نعم، إنَّ أكثر ما ذُكِر من وسائل فهْم القرآن: فنونُ العربية لا بدَّ منها، واصطلاحاتُ الأصول وقواعده الخاصَّة بالقرآن ضروريةٌ أيضًا، كقواعد النّحو والمعاني، وكذلك معرفةُ الكون وسُنن اللَّه تعالى فيه. كلُّ ذلك يُعين على فهم القرآن. وأمَّا الرِّوايات المأثورة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء التَّابعين في التَّفسير؛ فمِنْها ما هو ضروريٌ أيضا (…) وأكثرُ التفسير المأثور قد سرى إلى الرُّواة من زنادقة اليهود والفُرس ومسْلمة أهل الكتاب (…) وكان الواجب جمع الرِّوايات المفيدة في كتب مُستقلة؛ كبعض كتب الحديث، وبيان قيمة أسانيدها، ثم يُذكَر في التَّفسير ما يصحُّ منها بدون سند، كما يُذكَر الحديث في كتُب الفقه.

ويُعقِّب محمَّد رشيد رضا على ذلك بالقول : “وغرَضُنا من هذا كلّه، أنَّ أكثر ما رُوي في التَّفسير المأثور، أو كثيره، حِجَابٌ على القرآن وشاغِلٌ لتاليه عن مقاصده العالية الزَّكية للأنفس، المنوِّرة للعقول. فالمفضِّلون للتَّفسير المأثور لهم شاغِلٌ عن مقاصد القرآن بكثْرَةِ الرِّوايات، التي لا قيمة لها سندًا ولا موضوعًا، كما أنَّ المفضِّلين لسائر التَّفاسير لهم صوارف أخرى عنه كما تقدَّم. فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجَّه العنايةُ الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتَّفق مع الآيات الكريمة المنزَّلة في وصفه، وما أُنزل لأجله من الإنذار والتَّبشير والهداية والإصلاح؛ وهو ما ترى تفصيل الكلام عليه في المقدِّمة المقتبسة من دروس شيخنا الأستاذ الإمام الشَّيخ محمَّد عبده، رحمه اللّه تعالى وأحسن جزاءه. ثمَّ العناية إلى مُقتضى حال هذا العصر، في سهولة التَّعبير، ومُراعاة أفهام صنُوف القارئين، وكشْف شبُهات المشتغلين بالفلسفة والعلوم الطَّبيعية وغيرها، إلى غير ذلك”.

وأول ما يمكن استنباطه من هذا النَّص؛ هو أنَّ “تفسير المنار” لا يدخل قطعا ضمن الصّنف المتعارف عليه بـ “التَّفسير بالمأثور”؛ وإنَّما يتم إدراجه ضمن “التَّفاسير العقلية الاجتماعية” التي تؤمن بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم، أو ضمن “المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة” في التفسير؛ والتي كان من رجالها المؤسِّسين : جمال الدِّين الأفغاني، وتلميذه محمَّد عبده، وتلاميذه : محمَّد مصطفى المراغي، ومحمَّد رشيد رضا، وغير هؤلاء كثير.

وهذه المدرسة، فيما يؤكد صاحب كتاب : “اتّجاهات التَّفسير في القرن الرَّابع عشر”، ترتكز على عشرة أُسُس؛ هي :

1- الوَحْدة الموضوعية في القرآن الكريم.

2- والوحْدة الموضوعية في السُّورة القرآنية الواحدة.

3- وتحكيم العقل في التَّفسير.

4- وإنكار التَّقليد وذمِّه والتَّحذير من مغبَّة الوقوع فيه.

5- والتَّقليل من شأن التَّفسير بالمأثور.

6- والتَّحذير من التَّفسير بالإسرائيليات.

7- واعتبار القرآن المصدر الأول في التَّشريع.

8- والتَّحذير من الإطناب.

9- وإبراز خاصية الشُّمول في القرآن الكريم.

10- والتركيز على المسائل التي تخصُّ الإصلاح الاجتماعيَّ.