يحزن الإنسان كثيرا عندما يجمع مالا ثم يأتيه ظرف ما يلتهم ما جمعه، وهذا شأنه بعد أن يفقد ما يحب، مع أن ما ضاع يمكن تعويضه لكن هناك أشياء غالية يجمعها الإنسان ثم يفقدها في وقت لا يمكن تعويضها فيها، هذه الأشياء التي قد تتبخر هي الحسنات التي يجمعها الإنسان طوال عمره، ضياع الحسنات بعد جمعها  يسمى في التعبير القرآني والنبوي حبوط العمل ،(قَالَ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ الْحَبَطُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَبَطُ إِسْقَاطٍ وَهُوَ إِحْبَاطُ الْكُفْرِ لِلْإِيمَانِ وَجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ وَحَبَطُ موازنة وَهُوَ إِحْبَاطُ الْمَعَاصِي لِلِانْتِفَاعِ بِالْحَسَنَاتِ عِنْدَ رُجْحَانِهَا عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَحْصُلَ النَّجَاةُ فَيَرْجِعَ إِلَيْهِ جَزَاءُ حَسَنَاتِه)[1]

وقد جاء الحديث عن حبوط العمل الصالح في القرآن والسنة، تحذيرا من الحسرات التي تقتل صاحبها حين يجني الناس ثمار أعمالهم الصالحة في الدنيا والآخرة ويقف من حبط عمله يشاهدهم، لكن مالذي يضيع الحسنات بعد كل الجهود التي بذلناها في جمعها؟؟ من المواضع التي يفقد الناس فيها ثمار أعمالهم الصالحة:

1-ما جاء في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات: 2] من إجلال النبي وتقدير الرسالة التي يحملها وتعظيم الله سبحانه وتعالى الذي أرسله ،خفض الصوت في حياته وبعد وفاته عندما نسمع الحديث النبوي الشريف ،” ضحك إنسان عند حمّاد بن زيد، وهو يحدث بحديث عن رسول الله – -، فغضب حمّاد، وقال: إنّي أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله – – وهو ميت، كرفع الصوت عنده وهو حيّ، وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم[2]. أما الاستخفاف والاستهزاء بالسنة التي ثبتت صحتها فهو كفر مخرج عن الملة.

2-ومن المواضع التي تذهب العمل الصالح من أساسه فلا يبقى لصاحبه غير الندم، الرياء قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ ” قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً [3] لقد أنفقوا الأموال وبذلوا الجهود وساعدوا الناس ووقفوا مواقف الشرف والشهامة وقرأوا القرآن وكانوا في الصفوف الأولى في الجمع والجماعات ،ولما حانت ساعة تحصيل الأجور  أمرهم الله تعالى أن يتوجهوا للناس وهذا هو العدل إنهم لم يعملوا لله تعالى فكيف يطلبون منه سبحانه الأجر، ونريد أن نفكر في صعوبة هذا الموقف ساعة أن يعود الناس فرحين مستبشرين بما آتاهم الله تعالى من فضله الواسع وكرمه الذي لا حدود له بينما يعود اهل الرياء بأيدي فارغة وقلوب تتقطع من شدة الندم على عدم الإخلاص، الأعمال موجودة لكنها بلا أجر، لأنهم أخذوا أجرهم في الدنيا لكن الدنيا مضت ونسي الناس ما قدموا ولم يعد هناك فرصة للعمل إنما الوقت وقت جزاء:” اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً”، ليس عندهم شيء بل كل امرئ مشغول بنفسه لن يعطوهم أدنى اهتمام ولا أقل أجر.

3-وموقف آخر لحبوط العمل وضياع الحسنات أمام عين صاحبها  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[4] جمع هذا المفلس حسناته من خلال العبادات التي ضرب النبي الصلاة والصيام والزكاة لها مثلا، وإذا نظرنا  في الجانب المقابل وجدنا شتما وقذفا وأكلا لأموال الناس بالباطل وانتهاكا لحرمة الدماء التي صانتها الشريعة، توزع الحسنات على المظلومين أصحاب الحقوق، قد تغطي ديون هذا الذي جمع بين العمل الصالح وبين أذية الخلق وبذلك يبقى بلا حسنات، وقد لا تكفي حسناته لقضاء ديونه عند الخلق الذين ظلمهم، فيحكم الله عليه بأن يأخذ من سيئاتهم لتوضع على سيئاته فتكون المحصلة حسنات ذهبت لآخرين – لأنهم لم يأخذوا حقوقهم في الدنيا – وسيئات تضاف إلى سجلات السيئات ثم المصير المظلم .

4-وكما نهتم باكتساب الحسنات يجب أن نهتم بالمحافظة عليها قال النبي : «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[5]

لقد بلغت أعمالهم من الضخامة حدا كبيرا، فكانت أمثال جبال تهامة التي يصل ارتفاع بعضها إلى ثلاثة آلاف متر،  لكن هذه الحسنات يجعلها الله تعالى هباء منثورا ،والسبب هو انتهاكهم لحرمات الله إذا خلو بها وغابوا عن الأعين.

5-ومما يحبط العمل ترك صلاة العصر، قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ»[6] (قال المهلب: معناه من تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، فحبط عمله فى الصلاة خاصة، أى لا يحصل على أجر المصلى فى وقتها ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة) [7].

وقد عقد القاضي المحدث الفقيه المهلب بن أبي صفرة بابا في كتابه المختصر النصيح بعنوان :خَوْف الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ بِالسَّيِّئَاتِ وَاللَّعْنِ وَالتَّكْفِيرِ لِأَخِيهِ

لا ينبغي أن نحكم على الآخرين بحبوط أعمالهم فذلك أمر مرجعه إلى الله. عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ جَوْسٍ الْيَمَامِيِّ ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا يَمَامِيُّ، لَا تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ هَذِهِ لَكَلِمَةٌ يَقُولُهَا أَحَدُنَا لِأَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إِذَا غَضِبَ. قَالَ: فَلَا تَقُلْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلَانِ، كَانَ أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ الْآخَرُ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى ذَنْبٍ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا، أَقْصِرْ. فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ ” قَالَ: ” إِلَى أَنْ رَآهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ، أَقْصِرْ. قَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا “، قَالَ: ” فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قَالَ أَحَدُهُمَا  ، قَالَ: فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، وَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا  ، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ “. قَالَ: ” فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ “[8]

وجاء عند الإمام مسلم:” قال الله عز وجل  مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ” ولكي نضع هذا الحديث في إطاره الصحيح ينبغي لكل مجتهد في العبادة أن لا ينصب من نفسه حكما على الآخرين ،وأن لا يغتر باجتهاده وتقصير الآخرين وإنما عليه أن يدعوهم إلى الله ويرجو لهم الصلاح والاستقامة، وأن يكون شأنه مع المقصرين ما جاء في الكتاب الكريم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23]  أما أمر العفو والمغفرة فهو لله سبحانه وتعالى وحده، وفي الجانب المقابل لا ينبغي لمن وجهت إليه النصيحة أن يردها بل يسأل الله تعالى لنفسه الهداية ولمن نصحه حسن الجزاء حتى لو كان في النصيحة غلظة.

أثمن ما يملكه الإنسان المسلم هي حسناته إذا ملك الناس الدنيا وضاعت منهم يمكن أن يستردوا ما ضاع وزيادة، أما إذا ضعات الحسنات واكتشف الإنسان ضياعها ساعة أن توضع في الميزان فمتى يعوضها؟؟، لقد ذهبت فترة العمل وجاءت فترة الحساب.