إن كلمة السنة تشمل جميع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وصفاته وتقريراته، فإنه من المتفق عليه أن تدوين جميع هذه السنة برمتها في العهد النبوي أمر لا يقع حتما، ولم يدعيه أحد وهكذا الحال المستمرة في عصر الخلفاء الراشدين وفي صدر عهد خلفاء بني أمية حتى رأس المائة الهجرية، وذلك لعلة معقولة المعنى صدتهم عن تدوينها تدوينا عاما رسميا ” فالعصر عصر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لا عصر تابعين، وهم أشبه ما يكون بحوارى عيسى عليه السلام، ولنا في أهل الكتاب تجربة حين سجل أصحاب النبي عيسى عليه السلام ما سمعوه وما رأوه، نسبت الأناجيل إليهم لا إلى عيسى ولا إلى الله، … فكان الحذر والحيطة … بالعدول عن التدوين، إذ لو فعل لم يأمن أن تتعدد كتب السنة بتعدد قائليها، وتتنوع بتنوع أسماء كاتبيها، فتكون أناجيل في الأمة، ويهمل الكتاب الأصلي الذي هو درة التاج وقلادة العقد”[1]

إلا أن الخلفاء والصحابة لم يكونوا أعداء تدوين السنة المطهرة إنما كانوا أنصارها، حيث ثبتت الآثار الدالة على مباشرة الخلفاء الراشدين وبعض الصحابة بكتابة مجموعات من الأحاديث، لكن على السبيل الفردي.

بل جاء الحض على الكتابة والأمر بضرورتها عن كل من أمير المؤمنين علي وأنس وابن عباس وغيرهم -رضي الله عنهم- وجاء قولهم: “قيدوا العلم بالكتاب”[2] وفي هذا بيان واضح على أن الهمة مصروفة إلى كتابة الحديث، حتى روى أحد التابعين – وهو عبد الله بن حنش – أنه رأى طلاب العلم في مجلس البراء بن عازب الأنصاري وهم يكتبون على أكفهم بالقصب.[3]

“ومن أشهر الصحف المكتوبة قبل عصر التدوين الرسمي الصحيفة التى كتبها همام بن منبه، زوج ابنة أبى هريرة رضي الله عنه كتبها أمام أبى هريرة، ولهذه الصحيفة مكانة خاصة في تدوين الحديث، لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة كما رواها ودونها همَّام بن منبه عن أبى هريرة، فكانت جديرة باسم “الصحيفة الصحيحة”[4] وللصحيحين نصيب وافر منها.

أسباب التدوين الشامل للسنة النبوية

من أبرز بواعث حركة التدوين الشامل للسنة ما يلي:
الباعث الأول: انتفاء المانع عن التدوين
في زمن الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة لم يزل القرآن الكريم في مرحلة الجمع والإقبال التام حفاظاً لمكانته في نفوس المسلمين، و”إبعاد الأمة الإسلامية عن الخطأ الأثيم الذى ارتكبه أهل الكتاب من قبل بتبديل كتاب الله التوراة، والإنجيل بوصايا الرسل وجعلوها هى الكتب المنزَّلة “[5]
وإن كلام الله له لون خاص، وهو معجَز لفظا ومعنى، ومتعبد بتلاوته، وغير ذلك من خصائص لم تثبت لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان كلامه عليه الصلاة والسلام وحيا من حيث المعنى، لكن صرفت العناية في ضبط لفظ القرآن في ذلك الزمن أكثر من ضبط السنة النبوية، مراعاة لأحوال المهتدين الجدد في الإسلام، وعدم الخوف على ذهاب شيء من الهدي النبوي في صدور الصحب الأطهار لقرب عهدهم به عليه الصلاة والسلام.

ولذلك اعتنت الدولة الراشدة بجمع القرآن وتدوينه الرسمي أولا بأمر أمراء المؤمنين أبي بكر وعمر وعثمان وبموافقة علي رضي الله عنهم حتى انتهى جمعه في الخلافة الراشدة، وحمل الناس على مصحف واحد بقرآءة واحدة فكان ذلك خيرا محضا.

ومن وقتئذ أُمن القرآن من الضياع والإهمال، وكمل حفظه } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ،{وكان هذا الحفظ عاملا مساعدا لحفظ السنة النبوية التي كانت شارحة وموضحة له، ولأن الانشغال بخدمة حفظ الكتاب هو المانع عن التوجه الرسمي إلى حفظ السنة، والآن فقد زال المانع وانتفى. وكل ما حصل من الحفظ والعناية والرعاية والصيانة للسنة النبوية فإنه حاصل على سبيل ضمني وتبعي للكتاب الكريم المنزل.

الباعث الثاني: خوف دروس شيء من السنة النبوية

كانت صدور الأصحاب الكرام أوعية للحديث الشريف إضافة إلى الكتابات الفردية التي تم تسجيلها، ولكن لم يكن الصحابة مقيمين في بلد واحد حتى يكون ذلك المصر قبلة العلم الذي يرحل إليه، بل انتشروا في الآفاق وخاصة منذ عصر خلافة عثمان وبعد مقتله، وهذا الذي أورث القلق وامتلأ به الخوف في قلوب التابعين من ضياع شيء من السنة النبوية، إذ لو مات الصحابة في تلك البلدان المتنائية بلا ظفر بما معهم من التراث النبوي، وإنه قد يؤدي إلى تفلت كثير من الأحكام الدينية.

وقد أدرك أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الأموي هذا الخطر المحدق فسعى سعيه باستنفار الجهود العلمية في جميع أرجاء الدولة الإسلامية للوقوف في وجه هذه الحالة المخيفة؛ فقام خطيبا بين الناس قائلا: إن العلم سيقبض قبضاً سريعاً، فمن كان عنده علم فليظهره، غير غال فيه ولا جاف عنه[6]

وفي رسالة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن حزم إشارة واضحة إلى خوف ضياع السنة النبوية إذ يقول: ” انظروا ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فأكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء[7] وعن عكرمة بن عمار قال:” سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت”.[8]

ومن رواء ذلك قام علماء التابعين بالواجب العظيم وخضعوا جميع الوسائل المتاحة لجمع السنة وحمايتها، ومن أهمها: الرحلة في طلب الحديث، فإذا كانت الرحلة في عهد الصحابة لأجل التثبت والتأكد فيما بينهم؛ إلا أن الهدف في هذه الحقبة أوسع فأصبحت الرحلة من أجل خوف تفلت شيء من السنة، ولذا شدوا الرحال من مغرب أمصار العلم إلى مشرقها وجنوبها وشمالها، حتى قال أنس بن سيرين:” أدركت بالكوفة أربعة آلاف شاب يطلبون العلم”[9]. وفي هذا الأثر إشارة إلى تزاحم الطلبة في ميدان العلم وربما يكون ذلك العدد فوق ما ذكره الإمام ابن سيرين رحمه الله لأنه حكى ما شاهده، وقد لا يحيط بعددهم علما لاسيما ليس من سكان الكوفة، وحتى على فرض صحة ضبط العدد فإنه عدد كبير، وهذا فقط بالنسبة لبلدة واحدة فكيف لو انضاف إلى ذلك بقية الولايات الإسلامية؟ وكل هذا يزيدنا بياناً جليا لصورة حيّة لشعور الجميع بثقل المسؤولية.

وهذا أربدة التميمي يقول: “ما سمعت بأرض فيها علم إلا أتيتها”[10] وعن الزهري قال: اختلفت من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز خمسا وأربعين سنة ما استطرفت حديثا واحدا”.[11] أي ما فاته شيء من حديث أهل الحجاز والشام.

وآخرون من أئمة أصحاب الحديث الحفاظ الرحالين الذين طافوا الدنيا والجامعين للعلم، وسدت الرحلة في الطلب ثغرة كبيرة في مواجهة خطر ضياع السنة النبوية.

الباعث الثالث: الخوف على الحديث أن يختلط به غير الصحيح والموضوع

كثرت في العصر الأموي الفرق المنحرفة عن المنهج الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصحابة، وانتصرت لمذاهبها بالنصوص الكاذبة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان العمل بالقرآن وأحكامه لا يكتمل إلا بمعرفة السنة والتمييز بين صحيحها وضعيفها اشتدت الحاجة إلى جمع السنن وتدوينها وتمييزها، ولكي لا يكون التعويل والتخريج في العبادات والاعتقادات على أحاديث لا تصح فيسبب البدع في الدين؛ وهذا الذى يجعل ابن شهاب الزهري يقول: “لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها ولا نعرفها ما كتبت حديثاً ولا أذنت في الكتابة”[12]

وكذا نبه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على ذلك في رسالته إلى ابن حزم: اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عمر.[13]

وقف مدققا ومتأملا عند هذه العبارة “اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث”.

وفي رواية:”ولا تقبل إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.” [14] والمفهوم المتحصل من هذا التوجيه أن في شهرة العلم سبيل لمعرفة الصحيح من السقيم ولتمييز بين الحديث النبوي الثابت وبين الموضوع الساقط.

وهكذا دعت الحاجة إلى حماية السنة بسياج من الحصانة السلطانية الأموية التي تبنت تدوينها بصورة رسمية.


[1] كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها. ص:384 بتصرف.

[2] تقييد العلم. ص:90، 95، 96.

[3] المصدر السابق. ص:105

[4] كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها. ص:386

[5] المصدر السابق. ص:384

[6] البداية والنهاية. 9/78

[7] تقييد العلم. ص:253

[8] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. 3/365

[9] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. 1/113

[10] العلل ومعرفة الرجال 1/157

[11] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (409).

[12] تقييد العلم. ص:108

[13] سنن الدارمي. 1/137

[14] رواه البخاري في كتاب العلم – باب كيف يقبض العلم. 1/49