ثبت عند علماء التفسير أن هذا الجزء من الآية الكريمة (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) [الطلاق: 2] نزل بسبب عوف بن مالك الأشجعيّ، روى الطبري وغيره عن عبد الله بن مسعود، قال: أتى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم -أراه: عَوْف بن مالك-، فقال: يا رسول الله، إنّ بني فلان أغاروا عَلَيَّ، فذهبوا بابني وإبلي. فقال: “اسأل الله”. فرجع إلى امرأته، فقالتْ له: ما ردّ عليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -؟ فأخبَرها، فلم يلبث الرجلُ أن ردّ الله إبلَه وابنه أوفر ما كان، فأتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فأخبَره، فقام على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وأمرهم بمسألة الله، والرّغبة له، وقرأ عليهم: (ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[1].

يظهر من سبب نزول هذا الجزء من الآية الكريمة أن الجملة معترضة تصلح لموضوع الآية وهو الطلاق ومراعاة أحكام الله تعالى المنزلة منه، وتصلح لحادثة عوف بن مالك الأشجعي، إذا كان سبب نزول الآية كما ذكر صحيحا، ومن هنا ذهب ابن عاشور فقال:

يجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن.

المقصود أن سورة الطلاق لها سبب نزول عام، وللجزء المذكور من الآية الثانية (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) سبب نزول خاص وهو فصة عوف الأشجعي، ولا تعارض بينهما واعتبر هذا الأمر من إعجاز القرآن الكريم.

أما سبب نزول سورة الطلاق فهو ما رواه مسلم عن طريق أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك. قال ابن عمر وقرأ النبي: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن).

قال ابن عاشور: وظاهر قوله: “وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم..إلخ. إنها نزلت عليه ساعتئذ، وقال الواحدي عن السدي: أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر[2].

 تفسير (ومن يتق الله يجعل له مخرجا)

وإذا أردنا حسن فهم وتدبر معنى هذه الآية فإننا نستلهمه أولا في سياق السورة وسبب نزولها الذي هو الغرض الأول، ثم بيانها كذلك بناء على حادثة عوف الأشجعي.

أما تفسيره بناء على الغرض العام من سورة الطلاق فقد تعددت أقوال المفسرين ومن ذلك:

قال الطبري: قوله تعالى (ومن يتق الله) أي من يخف الله فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، (يجعل له مخرجا) يجعل له من أمره مخرجًا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من أن يكون، وذلك أن المطلق إذا طلَّق، كما ندبه الله إليه للعدّة، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه، جعل الله له مخرجًا فيما تتبعها نفسه. بأن جعل له السبيل إلى خطبتها ونكاحها، ولو طلقها ثلاثًا لم يكن له إلى ذلك سبيل.

قال الزمخشري: ( (ومن يتق الله) يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم، ويكون المعنى: ‌ومن ‌يتق ‌الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد (يجعل له مخرجا) يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص.

ثم استدلوا بما وقع لسائل طلق زوجته ثلاثا، قال ابن عباس: لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا، بانت منك بثلاث والزيادة إثم في عنقك[3].

ورأى ابن عطية هذا الوجه هو اختيار المفسرين، قال:

قوله (ومن يتق الله) .. قال علي بن أبي طالب وكثير من المتأولين نفي من معنى الطلاق، أي ومن لا يتعدى في الطلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل الله له مخرجا إن ندم بالرجعة المباحة ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه، ومن لا يتق الله فربما طلق وبت وندم، فلم يكن له مخرج وزال عليه رزق زوجته[4].

أما تفسير قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) بناء على حادثة عوف الأشجعي، فيكون هذا الجزء من الآية الكريمة عامة  أن التقوى سبب للتفريج عن جميع الهموم؛ أضرار الطلاق وغير ذلك، فأصبح قاعدة إيمانية كبيرة.

يقول ابن عاشور: فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله: (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أعقب ذلك بقضية عامة، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب.

ومن هنا نرى الإمام ابن ناصر السعدي يعد التقوى احد الأسباب المؤدية إلى المطالب العالية واستدل بهذه الآية، فقال: من الأسباب التي ذكرها الله في كتابه موصلة إلى المطالب العالية .. جعل الله التقوى والسعي والحركة سببا للرزق.


[1]  وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (1/727)، وابن أبي الدنيا في رسالة الفرج (10)، ومن طريقه البيهقي في “دلائل النبوة” 6/ 107 ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال الدارقطني: المرسل هو الصحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

[2]  «التحرير والتنوير» (28/ 293).

[3]   «تفسير الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل» (4/ 555)، تفسير الطبري.

[4]  «تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» (5/ 324).