المخطوطات العربية والإسلامية قضية بالغة الحيوية، ترتبط بالمستقبل بمثل ما هي معبِّرة عن الماضي؛ الذي ينبغي اكتشافه وإنصافه واستلهامه! ومن هنا تأتي أهمية ملف “مجلة العربية” في عدد رجب- فبراير 2023م، والذي حمل عنوان “المخطوط العربي والشتات”، بمشاركة عدد من الباحثين من دول متنوعة.

في “مقدمة الملف” أشارت المجلة إلى أن المكتبات ومراكز المعلومات والمتاحف في العالم تزخر بمئات الألوف من المخطوطات من عصور زمنية مختلفة، قبل أن تبدأ الطباعة. وهذه المخطوطات هي النتاج الفكري للعصور السابقة، والمخطوطات العربية جزء مهم منها. وتتوزع أغلب المخطوطات العربية على مواقع كثيرة في العالم، ويقدر البعض أن هناك ما يزيد على 55 ألف مخطوط عربي في الهند وحدها.

وأشارت المجلة إلى أن واقع هذه المخطوطات يطرح العديد من الأسئلة؛ مثل: هل تم رصد ومعرفة جميع المخطوطات العربية في العالم؟ وما مدى الاهتمام بالمخطوطات القديمة في ظل التغيرات الحضارية وسطوة التقنية الحديثة؟ وما أهم المبادرات العربية لخدمة هذا التراث؟

المخطوطات العلمية والحياة المعاصرة

تحت هذا العنوان، أشار لطيف الله قاري إلى أن هناك مقالات تُنشر وبحوث تجرى ومؤتمرات علمية تعقد في مجال تاريخ العلوم الطبيعية والتقانة في حضارة الإسلام، ويتم تحقيق مخطوطات في هذا المجال، باختلاف مستويات التحقيق، وأن هذا الموضوع جدير بأن يهتم به المتخصصون في العلوم والتقانة؛ لأن الحديث عن تاريخ علمٍ ما يستلزم الإلمام بالعلم الذي نبحث عن تاريخه.

وفيما يتصل بفوائد دراسة التراث العلمي، بيّن لطيف الله قاري أن هذه الدراسة لها عدة فوائد؛ مثل:

– تبسيط العلوم: بأن تبدأ المقررات المدرسية باستعراض تطور العلم، ويكون ذلك بهدف تبسيطه للطالب. وبدراسة الطالب شيئًا من تاريخ العلم، فإنه يستنتج القواعد التي تطور بها ذلك العلم.

– تحفيز الهمم: فمن أهم العوائق التي تعترض طريق الإبداع هو الشعور بعدم الثقة. ودراسة المخطوطات ترينا كيف بدأ آباؤنا ونهضوا.

– ازدياد حصيلتنا من المصطلحات العلمية: فتراثنا العلمي واللغوي ثري بذلك.

– تواصل البحوث التطبيقية في العلوم الحديثة مع التراث: أي أن كتب التراث العلمي لا تزال تمدنا بالمفيد والجديد في العلوم الطبيعية والتقانة. فمثلاً في عام 1980 بدأ مختصو الآثار بمحاولة العثور على “منجم الرضراض” الذي تحدث عنه الهمداني في كتابه (الجوهرتين). وكان الكتاب قد صار معروفًا للمجتمع العلمي بعد أن صدر مترجمًا إلى الألمانية سنة 1968، فأعيد اكتشاف ذلك المنجم بالاعتماد على كتاب الهمداني.

– الاستفادة من مناهج البحث العلمي عند السلف: فكتب التراث العلمي تدلنا على بعض المناهج والمسالك التي انتهجها علماء السلف، ومنها مناهج صالحة للتحسين والتطوير.

– تدريب النشء على الرياضة الذهنية: فمثلاً نستطيع تكليف الطالب بناء جهازٍ وَرَد وصفُه في كتاب تراثي، فيكون في ذلك فائدة له، وإحياء للتراث، وإضافة قيّمة إلى المتاحف العلمية.

– اللحاق بركب الباحثين الغربيين في هذا المضمار: فالغرب لا يزال متقدمًا في مجال تراثنا نحن!

أما التطبيقات الحديثة لمبتكرات قديمة سبقت بها حضارتُنا الإسلامية، فأشار الكاتب إلى العديد منها، مثل: استعمال البخار لتوليد الطاقة الميكانيكية.. التنظيف بالبخار.. الرسم الهندسي.. النظارات الطبية.

مستهدفات العناية بالمخطوطات

وفي هذا المقال، ذكر إبراهيم بن عبد العزيز اليحيى أن المخطوطات جمع: مخطوط، وهو: كل ما كُتب باليد على شكل كتاب؛ وأن المخطوطات العربية يُقصد بها: تلك التي كتبت بالحرف العربي وإن كانت بلغة أخرى؛ كالمخطوطات الفارسية والأوردية والعثمانية.

وأشار إلى أن عدد المخطوطات العربية في العالم يُقدّر بقرابة ثلاثة ملايين مخطوط، وهو رقم تقديري قابل للمراجعة.. وأن أعلى نسبة من المخطوطات العربية متوفرة في تركيا بسبب حكم الدولة العثمانية للعالمين الإسلامي والعربي عدة قرون، وأن المخطوطات العربية في العالم مازلت بحاجة للفهرسة والتحقيق والدراسة.

وبيّن “اليحيى” أن الكفاءات العربية في التحقيق كثيرة، ولكنها في الفهرسة أقل، وأما في علم المخطوطات (الكوديكولوجيا) فمن النادر أن تجد عالمًا عربيًّا متخصصًا في ذلك إذا استثنينا الغرب الإسلامي.

وأشاد بجهود معهد المخطوطات العربية بالقاهرة التابع لجامعة الدول العربية، والذي منه انطلق الاحتفاء السنوي باليوم العالمي للمخطوط العربي 4 أبريل.. كما أشاد بالعديد من المراكز العربية التي تعتني بالمخطوط وتجاوزت عنايتها حدود الدولة؛ مثل مركز الملك فيصل بالرياض.. مركز جمعة الماجد بدبي.. مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة المنورة.

بين الجهالة والشتات

وهنا، أشار سعود محمد العصفور إلى أن العديد من مراكز المخطوطات لا ترقى إلى المستوى المثالي للحفظ والترميم، وبعضها لا تملك فهارس يعتد بها، أو أن فهارسها غير مكتملة في توصيفها؛ مما يضيف جهالة لما تملكه.

وأضاف: ويزيد الأمر جهالة وتغييبًا عن الباحثين أن بعض الجهات لا تُدرِج تعمدًا في فهارسها أسماء ما لديها من نوادر المخطوطات، رغبةً في منحها فيما بعد لمن يتولى تحقيقها من الباحثين الذين يعملون لصالحها.

وتابع: لا يقف الأمر أيضًا على الجهات الرسمية المعروفة بالحفظ والتحقيق والنشر؛ فالكثير من المخطوطات توجد في مكتبات خاصة قد يمتلكها العارفون وغير العارفين، ويزيد الأمر سوءًا وجهالة عندما تؤول تلك المخطوطات إرثًا متوارثًا لمن لا يُقدّر قيمتها ولا الفائدة منها؛ فإن المهمة تغدو أكثر صعوبة في الوصول إليها.

رقمنة المخطوطات العربية المهاجرة

وأما المهدي الرواضية، فقد أوضح أن ثورة الاتصال أسهمت في توفير المحتويات المتعلقة بالتراث والمخطوطات على صفحات “الإنترنت”، ووفّرت مادة غنية في الإشارة إلى النسخ المخطوطة وعرض نماذج منها والتعريف بما يُطبَع محققًا من التراث؛ فيسَّرت بذلك على الباحثين وخفَّفت من المعاناة التي عاناها أسلافهم.

وأشار إلى أنه منذ عام 2005م تقريبًا درجت بعض المكتبات ودور المخطوطات- في أوروبا خصوصًا- على إتاحة نسخ إلكترونية من محفوظاتها لاطلاع الباحثين، وقدَّمتها بجودة عالية لا تُهيَّأ في الوسيلة المتَّبعة سابقًا بالتصوير من “الميكروفيلم”.. مثل المكتبة الوطنية بباريس، ومكتبة جوتا والمكتبة الوطنية ببرلين، والمكتبة النمساوية بفيينا، ومكتبة جامعة كامبيريدج ببريطانيا، وجامعة بيل، وجامعة برنستون، والمكتبة الرقمية بميونخ (ألمانيا). بل إن هذه المكتبة الأخيرة لا تتيح لك معاينة المخطوط وتنزيله فقط، بل توفر لك إمكانية البحث عن أي كلمة أو جملة داخل المخطوط ذاته، وهو أمر لافت في تطور استجابة الحواسيب والبرامج الإلكترونية مع النص العربي.

وأضاف: كما هو الحال في أثر التكنولوجيا على مناحي الحياة، فإن لها مساوئ وأضرارًا؛ ومما يخشى ضرره أن يتصدر لنشر هذا التراث مَن لا يعرف الأسس العلمية في التحقيق وفق الأصول، فيكون إخراجها حينئذٍ عبثًا بالتراث، وتشويهًا للإرث الحضاري الذي تركه الأجداد. ويزداد الأمر سوءًا مع غياب النقد والمراجعة لما يُطبع!

التراث المخطوط في بلاد الاغتراب

وفي مقاله، تطرق إحسان الثامري إلى حال المخطوطات في خارج البلاد العربية.. مشيرًا إلى أن ما وصلنا من التراث العربي المخطوط هو بعضٌ مما ألِّف وكُتب؛ فقد خسرنا كثيرًا من ذلك التراث حينما تعرضت أجزاء من العالم الإسلامي لويلات الحرب والاحتلال والاقتتال والغزو والتدمير، وأشهر ذلك الغزو المغولي.

وتابع: عَبْر كثير من الطرق والوسائل وصلت المخطوطات العربية إلى مكتبات العالم، بل وتكدست في بعضها بأعداد هائلة، وبخاصة في مكتبات العواصم والمدن الأوروبية: ليدن، برلين، لندن، دبلن، فيينا، باريس، روما، بطرسبرج، واشنطن. وهنا، لا بد من كلمة حق نقولها عن حسن الحفظ والتخزين والخدمة لمخطوطاتنا في هذه المكتبات وحمايتها من السرقة وعوامل الضياع والفقدان.

وفي نظرة إنصاف للجهد الاستشراقي، قال “الثامري”: بغض النظر عن الأهداف التي دفعت المستشرقين للاهتمام بمخطوطاتنا- والتي تترواح بين أهداف علمية بحتة يمكن أن توصف بالسامية، وأهداف أخرى لا تخلو في أحيان من الخدمات الاستخباراتية- فقد حظيت الأصول الخطية لكثير من الكتب باهتمام بالغ؛ فنشروها منذ وقت مبكر نسبيًّا مع ما قام به العرب أنفسهم من نشر تراثهم المخطوط.

ثم أشار إلى أن الاستشراق بصورة عامة أخذ يذوي في معظم أرجاء العالم، وبالتالي فإن الاهتمام بالمخطوطات العربية نَزر، وبقيت المخطوطات حبيسة المخازن والمتاحف ودور الحفظ، لا يطرق بابها- في الأعم الغالب- إلا ورثتها وأحفاد زمنها الآفل، ينشدون نصًّا فريدًا، أو مادة جديدة لاستكمال بحث أكاديمي لنيل شهادة علمية.

وأضاف: أما المستشرقون فهم الآن قلة قليلة، بل نحن نحيا الآن أواخر عصر الاستشراق، ويكفي أن نعلم أن أقسام اللغة العربية، وكراسي اللغة العربية وآدابها في الجامعات الهولندية آخذة في الانكماش والإغلاق (جامعة نايميخين مثال ذلك)، وقد شهدنا رحيل ما يمكن اعتباره الجيل الأخير والمهم منهم؛ فاهتمام العالم اليوم لم يعد مرتبطًا بجذورٍ أو ماضٍ مهما عظم ذلك الماضي، وإنما ينبهر هذا الجيل بما يسمى العالم الافتراضي.

ومع وجود توصيات ومقترحات كثيرة صدرت عن المؤتمرات والندوات التي عقدها متخصصون بالمخطوط العربي، يعتبر “الثامري” أن أهم خطوة تخدم المخطوط العربي هي إصدار فهرس شامل يحتوي محتويات كل دور الحفظ والمكتبات المختلفة، يوثق كل المخطوطات العربية في العالم، وفيه وصفٌ وافٍ لكل مخطوط؛ فيوثقه ويبيّن أهميته ويكون دليلاً ضافيًا لمن أراد المعرفة عن أي مخطوط كان.

وأشار أيضًا إلى أن التركيز يجب أن ينصب على وضع آلية لرصد المجموعات الخاصة غير المرصودة وغير المفهرسة بطريقة ترضي أصحابها، مع إمكانية استفادة الباحثين منها في رفد المعرفة الإنسانية.. وأن من الأهمية أن نطلب دعمًا أكبر لمشروعات تحقيق المخطوطات ونشرها نشرًا علميًّا لائقًا. كما أن المؤسسات الدولية كاليونسكو يجب أن تبذل اهتمامًا أكبر في هذا المجال، وخاصة لمؤسسات حفظ المخطوطات للدول النامية، وأن تتحمل مسؤوليتها في باب حفظ التراث المادي للشعوب؛ فهي مسؤولية علمية إنسانية يجب أن يضطلع بها الجميع.

مؤسسة الفرقان

وكنموذج للمؤسسات الرائدة في العناية بالمخطوطات، تناول عصام مصطفى عقلة “مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي”، التي أُسست سنة 1988 في لندن، مِن قِبَل “مؤسسة يماني الثقافية والخيرية”؛ بهدف مسح التراث الإسلامي المخطوط وفهرسته ونشره وتشجيع البحث في مجالات علومه.

وبيّن أن هذه المؤسسة قد أَنشأت مركز دراسات المخطوطات الإسلامية، الذي يقوم على الأنشطة المباشرة لخدمة هذه المخطوطات، وتتركز أعماله في أربعة جوانب رئيسة:

– تحقيق المخطوطات العربية الإسلامية ذات الأهمية الكبرى: مثل كشف الظنون لحاجي خليفة.

– فهرسة المخطوطات العربية أو تعريب الفهارس للمكتبات الأوروبية والآسيوية والأفريقية.

– تنظيم الدورات التدريبية والمؤتمرات حول المخطوطات العربية وصيانتها.

– الدراسات الاستقصائية حول المخطوطات العربية والإسلامية. ولعل أبرز إصداراتها: “المخطوطات الإسلامية في العالم”، والتي تتكون من أربعة مجلدات تشمل رصدًا وإحصاءً شاملاً لمجموعات المخطوطات العربية والإسلامية وكيفية الوصول إليها، وتغطي مائة وخمس دول.

المخطوطات في أماكن مختلفة

بجانب ذلك، اهتم “ملف العربية”، وفي عدة مقالات، بتسليط الضوء على حالة المخطوطات في أماكن مختلفة؛ فتطرق إلى حادثة تدمير مخطوطات تمبكتو (مالي).. وإلى اهتمام جامعة الخرطوم بالمخطوطات العربية.. والمخطوطات العائلية في جزيرة جربة (تونس).. ومخطوطات تلمسان (الجزائر).. والمخطوطات العربية في تركيا؛ التي تعد صاحبة ميراثٍ هو الأضخم في عالم المخطوطات؛ إذ تقتني أكثر من 300 ألف مخطوط، منها 160 ألفًا باللغة العربية!

“ملف العربية” حول “المخطوطات” جاء ملفًا متنوعًا ثريًّا، يحفّز على الاهتمام بهذه القضية الحيوية، وبَذْلِ المزيد للعناية بها، لاسيما من المؤسسات ذات الخبرة والإمكانات اللازمة.. فهذا حقُّ ماضينا علينا، ومتطلباتُ مستقبلنا منا..!