حين نتحدث عن الكتابة، فإن علينا أن نقسمها ابتداءً إلى مستويات ثلاث:

المستوى الأول: هو الكتابة باعتبارها أداةً حيويةً يومية، نقيد بها مواعيدنا، نراسل بها أصدقاءنا عبر واتساب، نذكر بها أنفسنا بمهام اليوم، نضبط بها قائمة التسوق في السوبرماركت.

والمستوى الثاني: هو الكتابة باعتبارها هواية جادة، تحضر كل يوم في وجدان صاحبها وتستولي على حصة معتبرة من يومه وليلته واهتماماته إلى جانب أعماله الآخرى، وهو المستوى الذي أخرج لنا كتاباً كباراً مثل نجيب الكيلاني: الطبيب الكاتب نجيب الكيلاني، والموظف الحكومي الكاتب طه حسين: والقاضي ثم الأكاديمي علي الطنطاوي، وآخرين هم أكثر أهل القلم.

 

طه حسين

 

والمستوى الثالث: الكتابة باعتبارها مهنةً، حرفةً، مجالاً أولاً للعطاء، لا يزاحمها شيء إلا ما لا بد منه من مشاغل الحياة ومقتضياتها، وهذا المستوى الذي أخرج لنا كتّاباً كباراً آخرين، مثل عباس العقاد، ومحمد كرد علي، وميخائيل نعيمة،  وجبران وآخرين.

وحين نأتي على ذكر الكتابة مقرونة بالانضباط، فنحن نتحدث عن المستويين الأخيرين بطبيعة الحال، وهما مستويان مرتبطان بالإنتاج الكتابي، الذي تسمى ثمرته أدباً حين تقترب من الذات، وتسمى فكراً حين تقترب من الموضوع.

أما الانضباط الذي يشير إليه عنوان هذه المقالة، فهو القيام بالكتابة حين يجب القيام بها، بغض النظر عن مشاعر الكاتب حيال عمله! ومن الظريف أن هذا اللون من الانضباط يشكل قاسماً مشتركاً بين المنتجين من الكتّاب في شرق العالم وغربه، وفي أعلى السلم التاريخي وأسفله!

ولعل من الظريف والمفيد أن نطالع أكثر من شاهد على الانضباط بوصفه قاسماً مشتركاً بين المنجزين من أرباب القلم”.

ولا بد أن يظهر لنا اسم الإمام ابن جرير الطبري، صاحب التفسير، الذي كان واحداً من المؤلفين المعروفين بغزارة الإنتاج وضخامة المؤلفات، وحسبك منها تاريخه المطبوع في أحد عشر مجلداً، وتفسيره المطبوع في ثلاثين مجلداً، ويحكي تلميذه أبو محمد عبدالله بن أحمد االفرغاني فيقول: إن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصّلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين سنة، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة!

وفي ترجمة القاضي أبي بكر الباقلاني، أنه كان لا ينام حتى يكتب خمساً وثلاثين ورقة.

ومثال من التاريخ المعاصر تقريباً، هو الكاتب الأمريكي أرسكين كالدويل الذي حمله انضباطه على أن يعمل في ظرف صعب في  ولاية مين بشرق الولايات المتحدة، وهي ولاية تشمس ثلاثة أشهر، ويمتد شتاؤها تسعة أشهر باردة ثالجة. وصل كالدويل ولاية مين في مطلع الصيف، وكان عليه أن يعد العدة للشتاء القارس القادم، فأخذ يزرع البطاطس، ويقطع الخشب في النهار، ويكتب القصص وبعض مراجعات الكتب في الليل.

ولما جاء الشتاء انخفضت درجة الحرارة إلى عشرين درجة تحت الصفر، وأخذ كالدويل يشعل الحطب حتى نفد أكثره في مطلع يناير والشتاء على أشده ! وفي ذلك المناخ، يحكي كالدويل عن نفسه فيقول” كنت أكتب في الطابق العلوي، في غرفة بلا مدفأة، ألبس كنزة فوقه سترة، وألف ساقي ببطانية وأنا أكتب على الآلة الكاتبة، وأتوقف بين حين وآخر لأنفخ في أصابعي المنملة، بينما خارج النافذة تبدو مساحات لا نهائية من الجليد الذي يصل إلى الركبة في ارتفاعه. كنت أعمل من ١٠ إلى ١٢ ساعة يومياً أكتب قصة وراء قصة، أراجع وأصحح وأكتب ثانية بتصميم الكلاب بغض النظر عن الوقت أو الإرهاق.

 

الكاتب الأمريكي أرسكين كالدويل

 

ويضيف كالدويلوفي فبراير غدت البرودة أكثر مما توقعت. كنت أرتعش في الغرفة الباردة يوماً وراء يوم، كان بخار أنفاسي يتجمد على زجاج النافذة، وأصيب الجلد عند عقلات أصابعي بعضة البرد وأنا أحاول وأحاول لأجعل القصةتبدو كما أريدها أن تكون.” (كيف أصبحت روائيا، ٥٥)

لم يعد إرسكين يحتمل البرد، فغادر مين إلى أماكن عدة.. قضى منها عدة أسابيع في كوخ بغابة.. يتناول علبة فاصوليا باللحم ثلاث مرات يومياً، ويكتب من ست عشرة إلى ثماني عشرة ساعة يومياً. وبهذا الجهد الدؤوب صار كالدويل واحداً من مشاهير الكتاب الأمريكيين في النصف الأول من القرن العشرين.

وينتصب الروائي الأمريكي رايموند برادبيري شاهداً مثالياً على الانضباط في الكتابة، إذ كان يكتب في كل يومٍ ألف كلمة.

في دماغ كل كاتب غير منضبط، مقبرة واسعة تضم أفكاراً لم تكتب بعد، وفي مكتب كل كاتب غير منضبط، ثمة مقبرة أخرى تضم نصوصاً لم تكتمل بعد، ولن يكتمل غالبها.

والكاتب الذي لا يعمل إلا تحت ضغط، ولا ينجز إلا بعد متابعة، كاتب ناقص الأهلية، ينقصه هذا المكون الأساس من مكونات الشخصية الكاتبة، ذلك الانضباط الذي يذلل عقبات الكتابة، ويقفز بالكاتب وبقلمه فوق حواجزها الكثيرة.

الانضباط شديد الأهمية في حياة من يمارس الكتابة، به يصقل الكاتب المبتدئ موهبته ويسلس القلم في يده، وبه يتجاوز الكاتب المفكر مشقة الكتابة في الموضوعات العويصة، وبه يصنع الكاتب الروتين الذي يبدو السبيل الأوحد إلى ترك تراث كتابي يعتدّ به.

وحتى يصبح الانضباط شيئاً قابلاً للقياس ويملك المرء أن يحاسب نفسه عليه؛ فإن من المهم أن يجعل الكاتب لنفسه حصة يوميةً من الكتابة، يمكن تحديدها بواحد من طريقتين:

الأولى: تحديد عدد معين من الكلمات أو الصفحات يجب إنجاز كتابته خلال اليوم، بغض النظر عن الوقت اللازم لذلك.

والثانية: تحديد مقدار معين من الوقت يجب قضاؤه كل يوم في عملية الكتابة، بغض النظر عن عدد الكلمات.

وبمرور الأيام، وتعاقب الشهور والسنوات، يتراكم النتاج، وترتقي التجربة الكتابية، ويصبح الحال خيراً والأثر أبقى بإذن الله.