كتاب “زمن الغضب” للكاتب بانكاﭺ ميشرا   Pankaj Mishra من الكتب المهم مطالعتها للمتصدرين للعمل الإسلامي الفكري والإعلامي، فالكتاب يسعى لإنهاء الارتباط الحتمي بين العنف وبين الأفكار خاصة الإسلامية، ليعطي رؤية مغايرة، تنظر للعنف باعتباره تجليا لعمليات التحديث الغربي، التي أضعفت المعني والقيمة، وأوجدت ملايين المهمشين المحبطين، ومع التقاء العوامل الاقتصادية والاجتماعية في النفوس المحبطة أفصح العنف عن نفسه بصورة مرعبة.

فمنذ انهيار جدار برلين في نوفمبر 1989، وضع الإسلام كعدو للغرب، اتهمت العقيدة الإسلامية بأنها منشئة للعنف والإرهاب، رغم أن تعاليم الإسلام تدعو إلى السلام، وترفض الاعتداء، وأن مسببات الإرهاب ترجع إلى مظالم كبرى واحتقانات عميقة، والاجحاف والاستغلال الاقتصادي.

بانكاﭺ ميشرا ” المفكر ذو الأصول الهندية والمقيم في بريطانيا، والمطلع جيدا على الثقافات الشرقية خاصة الهندوسية والبوذية والإسلام، وعلى الثقافة الغربية، يبحر عكس التيار السائد ليقدم قراءة مغايرة للعنف، فربط العنف الحالي والعنف خلال القرنين الماضيين بالحداثة والتنوير الغربي، على اعتبار أن الأفكار ما هي إلا نتاج لسياقات معينة، ويجب ألا يُغفل السياق عند استدعاء الفكرة ومناقشتها.

والحقيقة أن منهجية “ميشرا” في نقاش العنف، ربما تستدعي منهجية وضعها علماء الأصول المسلمون، تعترض على منهجية “الاعتقاد ثم الاستدلال” أي أن الشخص يعتقد فكرة معينة، ثم ينطلق ليدلل عليها من النصوص والواقع، غير أن البحث العلمي المنصف، يرتكز على الاستدلال أولا، فالإدعاء الغربي خلال العقود الأربعة الأخيرة، بأن الإسلام ما هو إلا مُنتج للعنف، تحول إلى اعتقاد، يستدل على صحته من خلال استدعاء تيارات العنف الديني، وإسقاطها على الإسلام كدين، والمسلمين كمعتقدين.

كتاب “زمن الغضب: تاريخ حاضر“[1] يرفض الفكرة القائلة بأن معضلات العالم تكمن أسبابها خارج الحداثة الغربية، فالنموذج الذي صدره الغرب والقائم على الربط بين العلمنة والتقدم الصناعي وحرية المبادرة والربح ، حمل بذور أزماته وربما فنائه، فالحداثة مع عصفها بالبنى التقليدية ظلت عاجزة عن الوفاء بوعودها لتحقيق المساواة والارتقاء الاجتماعي والسعادة والرفاهية، لذا أخذ الغضب يطرق أبواب المهمشين وعقولهم، لكن المهم الذي يوكده “ميشرا” هو أن ذلك الغضب ليس وليد اليوم ولكنه قديم، يرجع إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، لذا وصف الحداثة بأنها “تاريخ مُعذب تغلب عليه فترات الفوضى والعنف الطويلة، وقلت فيه فترات السلم والاستقرار.

البداية من “فيومي”

يكشف “مشيرا” في كتابه عن أحد تجليات التأسيس للعنف في ظل الحداثة، ففي شهر سبتمبر 1919، استولى الأديب الإيطالي “غابريلي دانونزيو” برفقة ألفي متمرد على مدينة “فيومي” Fiume  ليعلن تأسيس دول “فيومي” الحرة،  فكان العنف هو مدخل ” دانونزيو” لبعث الأمجاد الإيطالية، وكانت الحماسة الخطابية والتحية من خلال اليد الممدودة، من الأساليب التي استعارتها النازية والفاشية، من ” دانونزيو”  إذ كان الرجل مُلهما لـ”هتلر” و”موسوليني”، واستهوى أعدادا من المحبطين ومهمشي الحداثة الذين رأوا في الديمقراطية لعبة مزورة يحركها ذوو النفوذ.

لكن “مشيرا” يقفز من “فيومي” إلى الوراء، ليعود إلى القرن التاسع عشر، مع سعي الجنرال “جورج بولونجيه” لتأسيس إمبراطورية فرنسية في شمال أفريقيا من خلال احتلال الجزائر، ثم السياسة العدائية للمهاجرين الإيطاليين في فرنسا عام 1893م، وادعاءات العنصريين الغربيين بتفوق الجنس الأبيض على غيرهم من البشر.

كان الانتقال الغربي إلى الراسمالية الصناعية، والانفتاح على ممارسة السياسة، سببا في انتشار مناخ الريبة والشك، فظهر المتلاعبون في السياسة والغوغائيون، والذين استطاعوا طرح العنف كمسار لتحقيق الأهداف، واستخدام العنف للانتقام من آثار التحديث السريع، فكان تمجيد العنف والحرب والتعصب والقوميات، وتغذية التطرف، ورغم أن “فيومي” انتهت مع القصف الإيطالي لها في ديسمبر عام 1920، إلا أن العنف لم يعد قاصرا على ساحات المعارك أو جبهات القتال، بل أصبح ممكنا للجماعات الصغيرة وكذلك الأفكار الغاضبة أن تلجأ إليه وتقدم عليه، ومن هنا أخذ الإرهاب يحتل مكانه في الساحة العالمية، وأصبح يروج للعنف كحل ممكن، وراجت أفكار الكراهية للغير من اللاجئين والأقليات، وباتت البشرية تعيش في “زمن الغضب” الذي يجد فيه الإنسان على الدوام أصواتا غاضبة، وعنفا مروعا، لا يكاد يصمت، حتى يتجدد بدعاة آخرين وبأفكار جديدة.

يؤكد “مشيرا” أن كثيرا من الأحداث المعاصرة، نجد لها وجود في القرن التاسع عشر، فمثلا نادى القوميون الألمان والإيطاليون بشن حرب مقدسة، وحقيقة الدعوة لا تختلف عما يردده دعاة “القاعدة” و”داعش”، وهي على حد وصفه “روح ثورية لاهوتية، ورغبة جامحة في حل شامل نهائي، واعتبار الحزب حفنة من المؤمنين، والقائد شخص ذو قداسة” فالفاشية والنازية والشيوعية عبأت الطاقات الجماعية بطرق مبتكرة، وقادتهم إلى حروب وإبادات جماعية وأنظمة استبدادية، مدفوعين برغبة في تأسيس مجتمع متكامل بجهد جماعي.

ومع إزدياد الحقوق الفردية والوعي بالفوارق الاجتماعية، ومع دول تآكلت فيها مظاهر السيادة، تلاشت الروابط التقليدية التي كانت تكفل للفرد ذاتية وهويته، فإزداد المهمشون، والاستغلال المنظم الإفقار الواسع، ومع الثورة الرقمية، في العصر الحالي، إزدادت المقارنات والوعي بالفجوات الاقتصادية والاجتماعية، فتنامى الحسد والتذمر، وهي بيئات خصبة لنمو العنف.

نقد على أسس أخلاقية

أزمات الحداثة عانى منها الجميع، فصار الشخص يظن أن أعداؤه هم الآخرون جميعا، وظهر ما يمكن تسميته بـ”الاستياء الوجودي” وهو مزيج مركز من الحسد والشعور بالمهانة والعجز، فكانت النتيجة الاستبداد والتعصب، و”العنف العدمي”[2]، يؤكد “مشيرا” أن تاريخ التحديث غلبت عليه المجازر وغياب التوافق السلمي، وأن الهستريا واليأس لم يكونا حكرا على ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفيتي، ولكنه غطى نمو أوروبا الاقتصادي وديمقراطيتها، فظهرت كتابات بعد الحرب العالمية الثانية تجتهد في تمجيد تجربة التحديث، وترى فيها سيرورة تاريخية، وتعتبر أن النازية والشيوعية والفاشية هي استثناء  في المسار، وهو اتجاه يرفضه “مشيرا” ويرى أن مشاريع تقدم الإنسان وإنجازاته التي روج لها الغربيون بكافة أطيافهم أغفلت النتائج السلبية للنمو الصناعي والاستهلاكي المكثف، وأن العلمانية والتحديث قوضت أهم فكرة تأسست عليها وهي أن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر ماديا، لكن تبخرت الكثير من الآمال، ووجد البعض في العنف قدرة على الخلاص من الملل واليأس، وأصبحت هناك قابلية للاستسلام لأية حماقة.

يؤكد “مشيرا” أن الوسيلتان اللتان يمكن للجنس البشري أن يدمر بهما نفسه، هما: الحرب الأهلية العالمية الشاملة، وتدمير البيئة الطبيعية، وكلتا الوسيلتان تطلان برأسيهما  مع تسارع عمليات التحديث، فباتت ظواهر تاريخية متكررة عبر العالم، خاصة إذا أدركنا أن الحضارة التجارية الصناعية الغربية جرى استساخها في أكثر من مكان في العالم، ومن ثم فهناك عنف كامن في الحضارة الصناعية، لأن هناك سعى حثيث لجمع الثروة المادية والقوة على حساب الأبعاد الجمالية والروحية للبشر، لذا تحول البشر إلى ضحايا لمنظومة هم من أسسها، ومن ثم لم يكن غريبا أن يتسع نطاق النقد للحداثة على أسس أخلاقية، فالتصنيع المتسارع في الدول النامية ملأ المجتمعات ببشر اجتثت جذورهم من مواطنهم الريفية وحكم عليهم بالتيه في المدن الكبرى، وكان هؤلاء أكثر استعدادا لتوجيه سخطهم للغرب ووكلائه.