في إطار اهتمام الفكر الإسلامي المعاصر بشئون الأسرة وما يتصل بها من تحديات وطموحات، برزت قضايا المرأة باعتبارها ميدانًا أساسيًّا للاجتهاد والتجديد المعاصر؛ سواء في القضايا ذات الجدل المتوارث، أو القضايا المستحدثة المتصلة بطبيعة العصر ونوازله.

ويمكن القول ابتداءً إن ما يمكن تسميته بـ”مسألة المرأة”، هي مسألة ذات حضور مهم في الفكر الإسلامي، فقهًا ودعوة وتربية واجتماعًا؛ وذلك لأمرين:

الأول: أن “مسألة المرأة” جزء من “المسألة الاجتماعية” بوجه أعم؛ بحيث لا يمكن تصور معالجة ما يتصل بالمجتمع من قضايا وإشكاليات، ولا النهوض بها، دون معالجة قضايا المرأة وما يتصل بها؛ فالمرأة جزء مهم من المجتمع، وركيزة أساسية من ركائزه.

الثاني: أن الفكر الإسلامي مَعْنِيٌّ بـ”المسألة الاجتماعية”، والتي تتضمن بالضرورة “مسألة المرأة”. ولذا، كان المدخل الصحيح لمعالجة قضايا المرأة هو النهوض بالمجتمع ككل، وليس بتناول “مسألة المرأة” على نحو منفصل، كأنها تقع في جزيرة منعزلة!

المجتمع هو قاعدة الأمة التي ترتكز إليها، ووعاؤها الكبير الذي تستقي منه.. وليس من الصواب تصور انطلاقة الحضارة الإسلامية بعيدًا عن ذلك؛ فقد كانت حيوية هذا المجتمع وفاعليته وثراؤه الفكري والعلمي ونشاطه الخيري والاجتماعي، العنصرَ الأهم الذي أعطى الحضارة الإسلامية تألقها وخصوصيتها، على مدى قرون متعاقبة.

ولعل التأمل في هذين الأمرين يفسر لنا كثيرًا من أسباب إخفاق دعوات الإصلاح، التي لم ترتكز إلى أساس متين، ولم تستوعب طبيعة المنظومة الإسلامية في مسارها الحضاري.

لهذا، اهتم الفكر الإسلامي المعاصر بقضايا المرأة؛ بحيث نجد هذه القضايا حاضرة، وبصورة أساسية، في المدونة الإسلامية المعاصرة؛ على مستويات الفقه والتشريع، والتربية والتوجيه، والدعوة والإصلاح.. حتى لا نكاد نطالع تراث مفكر أو فقيه أو داعية، إلا ونجد له إسهامًا في قضايا المرأة، يشتبك مع همومها وتحدياتها وتطلعاتها.

نظرتان متعارضتان

وقبل أن نشير إلى أهم قضايا المرأة التي كانت محلاًّ للاجتهاد والتجديد المعاصر، نلفت النظر إلى أن قضايا المرأة وُضعت فريسةً بين نظرتين متعارضتين، أثَّرتا على مكانة المرأة، وجعلتها سببًا مضافًا لأسباب البلبلة الفكرية والشقاق الاجتماعي.

  • النظرة الأولى: تريد أن تَحْجب المرأة تمامًا عن المجتمع؛ بذريعة درء الفتنة، والأخذ بالأحوط. فمُنِعت المرأة من الاضطلاع بأي دور في المجتمع، وحُرِمت من الاستفادة من ملكاتها وتطوير مهاراتها، وفات على المجتمع خير كثير. إضافة إلى ترسيخ ذهنية معينة عن الإسلام، باعتباره يتعامل مع المرأة من زاوية ضيقة “شهوانية”، وغير قادر على التفاعل مع الحياة المعاصرة.
  • النظرة الثانية: تريد أن تُلْحق المرأة بواقع نظيرتها في المجتمعات الغربية؛ فتكون المرأة المسلمة انعكاسًا لواقعٍ مغاير لواقعها، ولمشكلاتٍ بعيدة عن مشكلاتها؛ وبالتالي تنفصل عن نسيجها الحضاري والاجتماعي، وتنسلخ عن نموذجها المعرفي المستند إلى الإسلام قيمًا وأحكامًا ومقاصدَ.

وبين هاتين النظرتين تاهت المرأة، وأُسيء التعامل مع قضاياها، ولم تكن المحصلة إلا زيادة في معاناتها، وتهميشًا لدورها؛ ومن ثم، عاد ذلك على المجتمع ككل بمزيد من التخبط والتفكك.

أهم قضايا المرأة

أما أهم قضايا المرأة التي كانت محلاًّ للاجتهاد والتجديد المعاصر، والتي ما زال بعضها بحاجة إلى تعميق النظر حوله، وإعادة رؤيته ضمن ما يستجد من نوازل، وما تشهد المجتمعات من تغيرات.. فيمكن الإشارة إلى محاور هذه القضايا على النحو الآتي:

  • المحور الشخصي: وهو يضم عدة قضايا مثل: جدل الحجاب والسفور، أو الحجاب والنقاب. قضية الختان. زينة المرأة. تعليم المرأة. تطبيب المرأة. صوت المرأة.
  • المحور الأسري: ومن قضاياه: المرأة بين البيت والعمل. راتب المرأة بين ذمتها المالية والإنفاق على البيت، أو وحقوق الزوج والأولاد. المرأة بين الطلاق والخلع. الطلاق البدعي حُكمًا ووقوعًا. قضية الزواج المبكر. الزواج العرفي. السفر دون محرم. الزواج بالأجنبية. مسألة التعدد. تنظيم النسل. التلقيح الصناعي.
  • المحور الاجتماعي: وتشمل قضاياه: نشاط المرأة في المجتمع. المرأة والاختلاط. شهادة المرأة. دية المرأة. دور المرأة السياسي وحقها في التصويت والترشح. المرأة والعمل بالفنون. المرأة وولاية القضاء. المرأة والولاية العامة (رئاسة الدولة).

وحول هذه القضايا وغيرها صدرت عشرات بل مئات الكتب والدراسات، وتفاوتت الأنظار والاتجاهات العلمية في تناولها. وبعض هذه القضايا صار الحكم حولها مستقرًّا، وبعضها الآخر ما زال محل خلاف ويحتاج لكثير من البحث..

نقلات نوعية

وإذا كان المجال هنا ليس لمناقشة ذلك تفصيلاً، فيهمنا أن نشير إلى أن الاسلام حقق للمرأة نقلات نوعية؛ في تقرير شخصيتها، وحفظ كرامتها، وصيانة حقوقها.

وقد ذكر الدكتور السباعي أن الإسلام أحلَّ المرأة المكانة اللائقة بها في ثلاث مجالات رئيسية؛ هي:

  1. المجال الانساني: فاعترف بإنسانيتها كاملة كالرجل. وهذا ما كان محل شك أو إنكار عند أكثر الأمم المتمدنة سابقًا.
  2. المجال الاجتماعي: فقد فتح أمامها مجال التعلم، وأسبغ عليها مكانًا اجتماعيًّا كريمًا في مختلف مراحل حياتها منذ طفولتها حتى نهاية حياتها، بل إن هذه الكرامة تنمو كلما تقدمت في العمر: من طفلة إلى زوجة، إلى أم، حيث تكون في سن الشيخوخة التي تحتاج معها إلى مزيد من الحب والحنو والاكرام.
  3. المجال الحقوقي: فقد أعطاها الأهلية المالية الكاملة في جميع التصرفات حين تبلغ سن الرشد، ولم يجعل لأحد عليها ولاية من أب أو زوج أو رب أسرة. (انظر: المرأة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي، ص: 27).

إذن، هذه رؤية عامة توضح أن قضايا المرأة مثَّلت أحد ميادين الاجتهاد والتجديد المعاصر؛ وذلك لأهميتها ودورها الأساس في المجتمع.. بحيث استدعت هذه القضايا جهودَ الفقهاء والدعاة والمفكرين والمربين والمصلحين، كلٍّ في مجاله؛ حتى أصبحنا أمام مدونة ثرية متعاظمة من مدونات الفكر الإسلامي المعاصر؛ علينا أن نستفيد منها، وأن نبني عليها ونحن نستقبل تحديات جديدة ونوازل مضافة، تستدعي مواصلة هذه الجهود الثرية في الاجتهاد والتجديد.