“السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” كتاب جديد للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يفتح فيه آفاقَ “التفكّر” في “السيرة النبوية”. فبعد أن كشف حدود المحاولة المنطقية لابن النفيس والمحاولة التاريخية لابن خلدون، عَرَض مقاربته الأخلاقية المتميزة، إذ اتَّبَع فيها طريق “التأويل” في بيان كيف أن” السيرة النبوية” ليست مجرد نموذج أخلاقي متفرّد لا تنفد دلالاته العملية، وإنما هي الأساسُ الثابت الذي ينبغي أن يُبنى عليه عموم الأخلاق، قيمًا وأفعالًا وأحوالًا.

وانتهى طه عبد الرحمن في كتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” إلى إثبات أن “تتميم صالح الأخلاق” الذي تحدّدت به “الدعوة النبوية” ليس -في الحقيقة- الإتيانَ بقيم إضافية من رتبة القيم السابقة، وإنما هو تزويد الأخلاق الصالحة بالقيم المُثلى والقواعد الأولى التي تُؤسّسها، وتَـمدّها بالمشروعية.

السيرة النبوية من منظور فلسفي

خلال برنامج حواري أقيم في مكتبة الأمة بالعاصمة التركية أنقرة تحدث فيه عن كتابه الجديد “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي”، قال أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق المفكر المغربي طه عبد الرحمن أنه تناول السيرة النبوية من منظور فلسفي في كتابه الجديد الذي حمل عنوان: “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي”.

وقال في معرض تقييمه لكتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي”الذي اكتملت طباعته الأسبوع الماضي فقط ولم يصل إلى رفوف المكتبات بعد، إن الطبيعة البشرية محدودة وبسبب هذا القيد لا يمكن فهم السيرة إلا بطرق معينة.

كتاب (السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي) تأليف طه عبدالرحمن

وأشار عبد الرحمن إلى أن السيرة النبوية تتم مناقشتها بنفس الطريقة التي يتناولها المحدثون والفقهاء والمؤرخون. وتساءل: “لماذا لا تكون هناك طريقة أخرى من أجل الاستفادة من السيرة النبوية؟”، مبينا أنه سلك طريقا غير منهج المحدثين والمؤرخين. وأضاف: “السيرة هي في الأساس أخلاق، مجموعة من القيم، ولهذا السبب أخذت على عاتقي أن أتناول السيرة النبوية من منظور فلسفي”.

السيرة آية وليست ظاهرة

ورأى عبد الرحمن في كتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” أن بعض الأحداث في حياة النبي يجب أن يُنظر إليها على أنها “آية تستحق القراءة” بدل النظر إليها على أنها “وقائع وظواهر”. وأردف: “نبوة النبي محمد عبارة عن رسالة أخلاقية”.

ودعا طه عبد الرحمن في كتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” إلى “العمل من أجل العودة بالفلسفة إلى أصلها وهي الحكمة”.

طه عبد الرحمن الفيلسوف المغربي

وفي محاضرة ألقاها في ندوة أقامها مركز الأبحاث الإسلامية (إسام) في إسطنبول بعنوان :”كيف نؤسس لفلسفة إسلامية أصيلة”، تطرق عبد الرحمن للإشكالات المتعلقة بالفيلسوف المسلم المعاصر وقدم أفكارا تمكنه من الأخذ بها في هذا العصر.

وقال عبد الرحمن: “أي فلسفة اسلامية معاصرة لا تحظى بالأصالة حتى تكون من إبداع الفيلسوف المسلم”. كما أوضح أنّ “هذا الإبداع لا يتأتّى له في الإشكال الفلسفي إلا إذا تفاعل مع التصورات الفلسفية الراهنة وتفاعل مع التحديات العالمية القائمة وصاغ نتائج هذا التفاعل المزدوج على مقتضى خصوص التداول الإسلامي.”

بين فلسفة الحكمة وفلسفة العلم

وفي معرض حديثه عن كتابه الجديد “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” طالب عبد الرحمن الفيلسوف المسلم بأن “يأخذ بالفلسفة التي تنحو منحى الحكمة وأن يبتعد عن الفلسفة التي تنحو منحى العلم، ويشتغل بالتحدي الجذري الذي يشغل العالم اليوم وهو تسفّل الإنسان.”

أما المهمة الثانية التي دعا إليها فهي “تجديد التفلسف الحكمي الذي يميز بين العقل المجرد والعقل المسدّد، ويؤسس الأخلاق على الفطرة. وأوضح أنّ “الصورة العلمية للفلسفة تخرج الفلسفة من أصلها”. وشدد على ضرورة أن “لا تكون الفلسفة تابعة للعلم وأن يكون العلم خادما للفلسفة”.

وبين أنّ “التفلسف الحكمي هو الوحيد القادر على إنقاذ الإنسان من التسفّل حاضرا ومستقبلا”. وقال: “على الفيلسوف المسلم أن يعرف ذاته وأن يتخلق بأخلاق النبي الكريم تفكرا وتخلقا”. وبحسب عبد الرحمن فإن أعلى رتبة يصل إليها الفيلسوف المسلم بالاقتداء بالنبي تفكرا وتخلقا هي “الصديقية”.

3 أسباب لمبدأ “التشبّه”

وتساءل طه عبد الرحمن في معرض تقييمه لكتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” “كيف نؤسس لفلسفة إسلامية أصيلة؟”. وأشار إلى أن الفيلسوف لا يَكتفي، في معرفة الذات، باتباع المنهج العقلي والمسلك الخُلقي، لكي يحصّل الحياة الطيبة، بل يحتاج إلى طلب نموذج أعلى يتحقق فيه “كمال العقل” و”كمال الخُلق”، نموذج يُتشبَّه به في “التعقل” و”التخلق”، وقد اعتُبر “الإله” هو النموذج الأعلى الذي يمكن أن يُتشبَّه به، لأنه لا أكمل منه ولا أسعد، بحيث أضحى “التشبه بالإله” مبدأ من مبادئ التفلسف المعرفي.

وأوضح أن الفيلسوف المغربي في كتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” أنه لا يمكن أن يقبل بهذا المبدأ لأسباب ثلاثة:

الأول: أن “التشبه” علاقة تستلزم الاتصال المباشر، إن رؤية أو إشارة، وتعالى “الإله” أن يظهر للعيان أو يشار إليه بالبنان.

الثاني: أن المفهوم الذي ترسَّخ استعماله في مجاله والذي يفيد معنى “التقرب” من النموذج، مع الخلو عن شبهة منافسته التي قد تدخل على مفهوم “التشبه”، هو، بالذات، “الاقتداء” أو “الائتساء”.

الثالث: أن “القدوة الكامل” أو “الأسوة الكامل” الذي يتعين الاقتداء به هو “الإنسان الكامل”، ولا إنسان أكمل من خاتم النبيين ؛ لذلك، يطرح الفيلسوف المسلم مقولة “التشبه بالإله”، ويستبدل بها مقولة “الاقتداء بالنبي.

منهجان للاقتداء بخاتم النبيين

يترتب على هذه الأسباب كما يوضح عبد الرحمن في كتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي”، في معرفة ذاته، إلى الاقتداء بخاتم النبيين ، تحصيلا للحياة الطيبة، وهذا الاقتداء على نوعين “الاقتداء به في المنهج العقلي” و”الاقتداء به في المسلك الخُلُقي”.

أولا: الاقتداء في المنهج العقلي بـالنبي

لم يكن النبي الخاتم يتكلم في طرق التفكر على منوال أهل الفلسفة المعرفية، وإنما كان يسلك، عمليا، أكمل هذه الطرق ويحصِّل أفضل ثمارها، فقد كان يختلي للتفكر في فترات مختلفة ولأيام متواصلة، حتى أتاه الوحي.

وفي هذا التفكر الطويل، تحقق بأن أسمى ما يوصّل إليه “العقل” هو “الصدق“، فاتخذه خُلقا، حتى دُعي بـ”الصادق”، وحيث إن الصدق هو الإقرار بالحقيقة، وإن الغاية من المنهج العقلي هي، بالذات، الوصول إلى الحقيقة والإقرار بها.

فلا يسع الفيلسوف المسلم إلا أن يعتبر “الصدق” هو أسمى القيم العقلية، ثم إن “الصدق” أفضى بالنبي الخاتم إلى أسمى الحقائق، وهي “توحيد الربوبية”، وحينها، لا يسع هذا الفيلسوف إلا أن يعتبر “الصدق” قيمة عقلية موصولة بالأفق الإلهي، بحيث لا حقيقة إلا ولها صلة خاصة بهذا الأفق ينبغي الوقوف عليها.

لذلك، يجد الفيلسوف المسلم الحاجة إلى ضبط المنهج العقلي الذي يوصّل إلى معرفة الذات، إذ الحقائق التي يوصّل إليها ينبغي أن تكون متصلة بالأفق الإلهي، وهذا الاتصال يوجب عليه تجاوز المنهج العقلي الذي يأخذ بالحقائق وينسى أفقها الإلهي أو قُل يجرّدها من هذا الأفق، -أي المنهج العقلي المجرد- وطلبَ منهج عقلي يحفظ الاتصال بالأفق الإلهي، لأن في هذا الاتصال تسديدا للعقل، أي أن هذا الاتصال يوجب عليه طلب منهج عقلي مسدَّد.

لذلك، فإن إدراك الفيلسوف المسلم لضرورة التسديد الإلهي يجعله يقتدي، في معرفة ذاته، بمنهج التفكر النبوي، صدقا وتوحيدا.

ثانيا: الاقتداء في المسلك الخُلقي بالنبي

إذا كان “صدق” النبي الخاتم دليلا على تحصيله لـ”كمال التفكر”، فإن أمانته دليل على تحصيله لـ”كمال التخلُّق”، فإذا كان قومه ينادونه، ولـمّا يُبعث، بـ”الصادق”، فقد كانوا ينادونه أيضا، كما هو معروف، بـ”الأمين”، حتى صار هذا الاسم لقبا له، ولم يكن يحملهم على هذا النداء إلا إدراكهم بأنه فُطر على “الصدق والأمانة”، حتى لا أحد يضاهيه فيهما.

وكما أن “الصدق” وصّله إلى “توحيد الإله”، فكذلك “الأمانة” وصَّلته إلى “العدل بين الناس”، بحيث يكون عدله في الناس موصولا بتوحيده لربه، وهكذا، يكون “التوحيد” باعتباره أساس “الأمانة” و”العدلُ” باعتباره وسيلتَها، قد جعلا من “الأمانة” عبارة عن خُلُق جامع لأخلاق “الفطرة”، هذه “الفطرة” التي جاء الدين على وفقها.

لذلك، فإن إدراك الفيلسوف المسلم لحقيقة الفطرة الدينية يجعله يقتدي، في معرفة ذاته، بمسلك التخلق النبوي، أمانة وعدلا.

ويقول طه عبد الرحمن من خلال كتابه “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” أنه متى توسَّل الفيلسوف المسلم، في معرفة ذاته، بكمال الاقتداء بالنبي الخاتم، تفكُّرا وتخلُّقا، أي صدقا وأمانة، توصَّل إلى حقيقتين أساسيتين: إحداهما، أن كمال الحياة الطيبة لا يُدرَك إلا بكمال الاقتداء بالنبي الخاتم، والثانية، أن أعلى رتبة في التفكر والتخلق يمكن أن يَصِل إليها الفيلسوف المقتدِي هي رتبة “الصدّيق”، إذ يدركها بفضل اتخاذه النبي الخاتم قدوة، فضلا عن تسليمه بالاجتباء الإلهي الذي خُصَّ به.

من فقه الفلسفة إلى التفكر في السيرة

وللتذكير، طه عبد الرحمن كان قد أصدر العديد من المؤلفات من بينها كتاب “اللغة والفلسفة – رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود”، إلى جانب مؤلفه “رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه”، وكتابه “المنطق والنحو الصوري”، و”في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، و”العمل الديني وتجديد العقل”، وكتاب “تجديد المنهج في تقويم التراث”.

كما أصدر سنة 1996 مجلده “فقه الفلسفة” خصص جزء منه للفلسفة والترجمة والجزء الثاني للقول الفلسفي، إلى جانب كتاب “اللسان والميزان أو التكوثر العقلي”، و”سؤال الأخلاق”. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، ومؤلف حوارات من أجل المستقبل، والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري.

كما تطرق طه عبد الرحمن في مؤلف أخر إلى مفهوم روح الحداثة، “المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”، والحداثة والمقاومة، وسؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، ورُوح الدين، من ضيق العَلمانية إلى سعة الائتمانية، ومؤلف الحوار أُفُقًا للفكر.

ويعتبر كتابه الأخير “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” الذي لم يصل إلى رفوف المكتبات بعد، واحد من أهم الكتب التي تبين دور طه عبد الرحمن في توضيح طرق التغلّب على أزمات الفكر، وبناء عالم أكثر عدلا وأخلاقا، وإسهامه في التنبيه إلى ضرورة استعادة الاستقلال الفكري للعالم الإسلامي.