يركّز  كتاب “ما بعد الإنسان” للكاتبة روزي بريدوتي والمترجمة حنان مظفر ، على الجدل المتصاعد حول نظريات ما بعد الإنسان، وكيف انفجر مفهوم الإنسان تحت ضغط مزدوج من التقدم العلمي والمخاوف الاقتصادية العالمية. فبعد تدفق نظريات ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الصناعة، وما بعد الشيوعية..دخلنا مأزق ما بعد الإنسان بدق ناقوس الخطر  بأن مفهوم الإنسان قد انفجر تحت ضغط مزدوج من التقدم العلمي والمخاوف الاقتصادية.

بهذه العبارات تبدأ الباحثة والفيلسوفة الأسترالية- الإيطالية المعاصرة روزي بريدوتي مؤلفها المعنون بـ “ما بعد الإنسان”. و”روزي بريدوتي” التي هي أهم منظري النسوية وإحدى أهم الرائدات في دراسات المرأة الأوروبية. تعمّقت كثيرا في هذا الكتاب ودخلت في العديد من الأزمات التي ضربت مفهوم الإنسان بداية من الأزمة الأخلاقية التي ظهرت بعد ما أعلن عنه ميشيل فوكو “موت الإنسان”، برفضه فكرة مركزية الذات والإنسان التي بنيت عليها الوجودية.

قوة الكتاب

تأتي قوة كتاب “ما بعد الإنسان” من مكانة الكاتبة نفسها، وبالرغم من أن الكتاب صدر بعنوانه الأصلي ” The Posthuman” عام 2013، وطبع منه قرابة 32 ألف نسخة، إلا أن النقاش ما يزال محتدمًا حول ما طرحته الكاتبة، من نقد لنظريات الحركة الإنسانية والمركزية، لتصل إلى نظرية ما بعد الإنسان، وهي تندرج ضمن مسار مستمر لمؤلفها السابق عام 2002، بعنوان “التحول: النظرية المادية للمستقبل”، ونظرًا لمكانة الكاتبة باعتبارها تعمل عضوًا مؤسسًا في الاتحاد الأوروبي للمعاهد والمراكز الإنسانية، وكذلك عملت كعضو منتخب في المجلس العلمي للأبحاث العلمية في فرنسا، أعاد المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت نشر الكتاب في نوفمبر 2021، بعد ترجمته للعربية ضمن سلسلة “عالم المعرفة”.

انقلاب الغرب على القيم

ملخص الكتاب أنه شرّح من خلال استدعاء النظريات وروادها، وبالسرد القصصي المعاصر للأحداث أزمات كبيرة يعيشها الغرب، لأنه قدم نفسه مركز العالم وصانع الحضارة الحديثة، أثرت هذه الأزمة على مفهوم الإنسان المعاصر وما بعد الإنسان، وانطلقت من انقلاب الغرب على القيم والاتجاهات الفكرية التي تلت مرحلة الإصلاح الديني والنهضة وفلسفة الأنوار باعتبار لب اهتماماتها قيمة العقل ومركزية الإنسان، لنرى غربًا إمبرياليا جديدًا غريبًا عن غرب فلسفة الأنوار، تصاعدت فيه الذاتية والأنانية والفردية، وطغت فيه الآلة والبيانات والمعلومات والتجريبية على الحقول الاجتماعية القِيَمِيَّة، فقد سَلّع الغرب كل شيء، وأنتج وعيا وقيما ينطلق من الاستهلاكية وينتهي عندها، ورأى في الآخر شيئا “مختلفا عن” بمعنى “أقل من”، وفض عقد الصلح مع الطبيعة والحيوان والمحيط من حوله.

جمالية الكتاب أنه كسّر العديد من المسلمات بداية من الفكرة السائدة أن مسار البشرية خطي في تصور التقدم، بمعنى (لا يمكن لليوم إلا أن يكون أحسن من الأمس، ولا يمكن للغد إلا أن يكون أحسن من اليوم) ضمن فلسفة “كانت” الغربية، أو من خلال ما طرحه “فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ” باعتبار القيم الغربية سواء في جانبها السياسي -الديمقراطية- صارت كونية أو في قيم الليبرالية الاقتصادية ممثلة في السوق أنها النموذج الوحيد الذي ليس له بديل.

من الحركة الإنسانية إلى دور الجامعة

الكتاب يقع في 248 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على أربعة فصول مع خاتمة ومقدمتين للكاتبة والمترجمة، ويعالج الفصل الأول نظريات الحركة الإنسانية من مؤيديها ومعارضيها وتداعيات إزاحة الإنسان من مركز الكون على الأخلاق وغيرها، فيما يتطرق الفصل الثاني لأنماط تحول الإنسان نحو الآلة والحيوان والأرض عبر قربه من الحيوان وحيازته على الوسائط التكنولوجية وسلطة هذه التكنولوجيا على الأرض.

وفي الفصل الثالث تتوقف عند سلطة الموت التي صنعتها الآلة كاستمرارية لما بعد الإنسان، إضافة إلى موجة التشكيك في العلوم الاجتماعية باعتبارها غير مناسبة للعصر وغير مؤهلة للحصول على الدعم الحكومي، فيما ترصد الكاتبة في الفصل الرابع دور الجامعة في زمن تشتتت فيه المعرفة وتعددت طرق الوصول إليها عبر التكنولوجيا وتطور العلوم الاجتماعية في ظل العصر الرقمي حيث أرادت الكاتبة إعادة الحيوية مجددًا للعلوم الاجتماعية وإظهار أهميتها.

تطرح الكاتبة مشكلة تراجع العلوم الإنسانية ونتائج التطور التكنولوجي على الإنسان، من تنامي الذاتية وتراجع القيم الأخلاقية والنظر للأشياء من بينهم الإنسان من منظور كمي حسابي إلى ما بعد الإنسان في رؤية مختلفة مع ما تطرحه المركزية الغربية للإنسان.

“أنا أتسوّق إذن أنا موجود”

لم تتردد بريدوتي في كتابها بدق ناقوس الخطر قائلة إن “مفهوم الإنسان قد انفجر تحت ضغطٍ مزدوج من التقدم العلمي والمخاوف الاقتصادية”، لتتعمّق فيما بعد في تدفق نظريات مابعد الحداثة والاستعمار والصناعة والشيوعية إلى غاية ما بعد النسوية، وصولا إلى مأزق العصر الجديد والعثرات الكبيرة التي أصابت مركزية الإنسان وبناه الاجتماعية وروابطه الإنسانية ونماذجه السلوكية وكذلك القيم والأخلاق، نتيجة السيولة اللامنتهية لما بعد الحداثة، والتي أشار لها عالم الاجتماع البولندي زيجومنت باومان في سلسلته الشهيرة “السيولة”، ثم أعادت الكاتبة تعريف الإنسان في عصر الرأسمالية المتوحشة بعد قولبة مصطلح “الكوجيتو” لأبي الفلسفة الحديثة في عصر التنوير رينيه ديكارت بقولها: “أنا أتسوّق إذن أنا موجود.

جنون البشر أخلاقيات الآلة و”تأليه” المنظمات

أعادت الكاتبة تعريف الأشياء حين رأت في استغلال لوحة الرجل “الفيتروفي”، الذي يجمع بين كمال الجسم وكمال القيم الذهنية والخطابية والروحية للفنان الإيطالي في عصر النهضة “لوناردو دافينشي” حين تم وضعها على أكواب قهوة “ستار باكس” كدعاية تسويقية للكمال، تشكيلا للتناقض الغربي اليوم بين ما يتم تعريفه وما يتم المضي فيه.

واشتبكت “بريدوتي” مع النظريات المؤيدة والمعارضة للحركة الإنسانية، وسردت أربعة مشاهد في عمق الأزمة تضرب في عمق الخلل الذي أصاب مفهوم الإنسان اليوم. وتجسد موت الفكر الغربي الذي يرى في الإنسان الأوروبي ذاتًا مستقلة وثابتة كونية.

كما أدخلتنا الكاتبة في أتون ما أسمته “جنون البشر” والصناعات التكنولوجية البيولوجية التي احترفوها، وفي دهاليز غَرْبٍ غير الذي نسمع عنه، والذي أصبحت فيه المنظمات الحقوقية تشبه “الإله”، وهو ما نقدته بريدوتي بشدة ضمن مشاهد واقعية في حياة الدول والناس.

كما سلطت الكاتبة في مؤلفها الضوء على أخلاقيات الآلة “سلطة الأحياء وسياسات الموت وجهان لعملة واحدة”، وساقت أمثلة عن صراع الآلة والأخلاق. واعتبرت “بريدوتي” أن الرأسمالية المتقدمة هي آلة الغزل التي تنتج الاختلافات وتضاعف الفروق غير المحددة بين الناس والدول إقليميا بشكل فاعل من أجل التسليع، وذلك عبر تشكيل وتسويق السلع تحت علامات الهويات الجديدة والديناميكية والقابلية للتفاوض، واختيارًا لانهاية له للسلع الاستهلاكية، وتطرح السمات البارزة للاقتصاد العالمي المعاصر ضمن هيكلة التقني العلمي.

دعوة لتصالح البيئة مع الإنسان والحيوان

لعل ما شد الانتباه اليقظ لهذا الكتاب تخوف الكاتبة من مشكلة تراجع العلوم الاجتماعية في الغرب لصالح العلوم العلمية وتركيز عصر الحداثة على التكنولوجيا وسلطتها، يما يحمله من انعكاسات على البنى الاجتماعية والقيم الأخلاقية، والنزعة الذاتية، وإعادة تعريف الكاتبة لمفهوم ما بعد الإنسان من خلال مناهضة الحركة الإنسانية وفق نظرة الغرب الإمبريالي المختلف عن غرب الإصلاح الديني والنهضة وفلسفة الأنوار التي اعتبرت الإنسان مركز الكون بقواه العقلية والروحية، حيث جعلت أيديولوجيا السوق الحرة الجديدة من معاداة الفكر سمة مميزة في عصرنا، مقابل صعود النموذج السطحي للتجريبية الحديثة التي تكتفي بتجميع البيانات والتعامل مع الأشياء من خلال التجربة والأرقام الكمية.

وخلاصة القول إن الأزمات المتنامية في الغرب كانت نتيجة لما طرحه كتاب “مابعد الإنسان” من تنامي الذات الأوروبية، وكسر علاقة الإنسان بالآخر والطبيعة والحيوان، والتعامل مع كل شيء بمنطلق التّسليع، وطغيان الآلة على الروح والأخلاق الإنسانية، في المقابل تدعو المؤلفة إلى تبني منهج جديد مستدام بوصفه دافعا وراء البناء الاجتماعي للأمل يرتكز على الشعور بالمسؤولية والمساءلة بين الأجيال، وضرورة التفكير الجدي في وضع الإنسان، وإعادة صياغة الذاتية وفقا لذلك، فضلا عن الحاجة لاختراع أشكال العلاقات الأخلاقية والقواعد والقيم ورفاهية الإحساس الموسع بالمجتمع بما في ذلك التداخل الإقليمي، أو البيئي للفرد والتي تليق بعصرنا المعقد، أي إننا وفق ما اختتمت به “بريدوتي” كتابها بحاجة لعقد تصالح مع البيئة والحيوان والإنسان والجامعة بعلومها الاجتماعية.