عند الحديث عن لحظات الضعف في حياة الإنسان نؤسس في المقدمة أن القوة بيد الله تعالى يهبها جل جلاله لمن يشاء ، وهذه الحقيقة مع وضوحها إلا أنها تغيب عن كثير من الناس، فتجد الاستقواء الذي يسعى صاحبه في الأرض فسادا، كما نجد الهوان الذي ينافي تكريم الله تعالى للإنسان.

يستطيع الإنسان -بما منحه الله من قوة العلم -أن يفتت الذرة ويستخرج منها طاقة هائلة كفيلة بتدمير ألوف بل ملايين الكائنات الحية، ويستطيع أن يصعد إلى الكواكب المجاورة والبعيدة بنفسه أو بما يطلقه من الآلات، لكنه يقف ضعيفا عاجزا أمام الكثير من الأمراض والمشاكل ، التي تهدد سعادته بل بقائه ومع ما عنده من علم إلا أن مواقف الضعف والعجز هذه متكررة.

الإمداد الإلهي

يمد الله تعالى الإنسان  – مع غيره من الكائنات -بقوة يتمكن معها من مواجهة ما يلقاه من مشاكل والتغلب عليها أو التعايش معها بما يكفل له البقاء، فحتى الكائنات وحيدة الخلية – وهي أبسط أشكال الحياة – تحيا في وسط فيه ما يناسبها وفيه ما يهدد وجودها، ومع ذلك تبقى وتقاوم، وقس على ذلك بقية أنواع الكائنات ،فلا يظن إنسان أنه مسلوب الحيلة منزوع الإرادة قد أرهقه الضعف حتى ألصقه بالأرض.

تسخير القوي للضعيف

ومع ضعف الإنسان بالنسبة لغيره من الكائنات والقوى إلا أن الله تعالى مكّنه من التعامل معها وترويضها والاستفادة منها، فانظر إلى قوة النهر الجاري كيف استطاع الإنسان أن يصنع السدود على مجاري الأنهار فيتحكم في كمية المياة التي تعبر ويستفيد من تدفق المياه في توليد الطاقة الكهربائية وينشأ البحيرات الصناعية التي يستخدمها كمزارع سمكية تغطي جزءا من حاجاته الغذائية فانظر كيف مكّن الله تعالى الإنسان مع ضعفه من التعامل مع القوة الهائلة لتدفق المياه.

بل يذكر الشيخ علي الطنطاوي –رحمه الله -أنه أثناء عمله كقاض كان يسمر مع بعض أصدقائه في إحدى الليالي وشعر بضيق شديد اضطره لترك مجلس السمر والسير في الشارع،  وإذا به يجد امرأة تبكي وتنتحب يسألها عن خبرها فتجيبه بأن لديها مشكلة كبرى وتقصها عليه، فيعاود سؤالها: لم لا تشتكين للقاضي؟، قالت: وكيف لامرأة مسكينة مثلي أن تصل إلى القاضي؟،  قال لها: إن الله عز وجل قد أرسل لكي القاضي ليقف بين يديك ويسمع شكواك، وطلب منها أن تقابله في الصباح في المحكمه لكي يحقق في الأمر ويرفع الظلم الذي وقع عليها، ومثل هذا كثير يسخر الله تعالى للضعفاء من يحميهم من الأقوياء  دون سابق معرفة بهم وبما وقع عليهم من عدوان.

الترهيب بالضعف

وكثيرا ما تجد المثبطين في كل مكان وزمان يغرقونك بعبارات العجز وقلة الحيلة ، وأذكر أني لقيت أحد طلاب الثانوية وأخبرني أنه حصل على نسبة عالية لكنه اضطر إلى الابتعاد عما يعرف بكليات القمة بسبب ضعف دخل والده، فقد لبس أحدهم قناع الناصح الأمين وقال له: والدك لن يستطيع أن ينفق عليك وإذا استطاع أن ينفق عاما فلن يستطيع أن يكمل المسيرة وستتوقف في منتصف الطريق أو بعد الخطوة الأولى، فما كان من هذا الطالب النابه إلا أن شعر بالعجز والضعف واختار تعليما منخفض التكاليف، في غمرة الشعور بالفقر والعجز ننسى أن الله تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه ،وفي معارك الحياة المتعددة والمتجددة نغفل عن الله تعالى وما يمنحه لعباده الصالحين الذين يلجأون إليه بصدق من قلوبهم وبيقين كامل أنه تعالى لن يتركهم.

لقد شعر إبراهيم عليه السلام بالضعف يوم أن أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج ، فتسائل متعجبا: وكيف يبلغهم صوتي؟! إن الأرض واسعة والحواجز من جبال وبحار موجودة وكبيرة، فكانت الإجابة: عليك النداء وعلينا البلاغ،  هذه القاعدة الثمينة التي تجعل المرأ يقوم بما عليه ويقدم أقصى ما يستطيع ثم بلوغ الغاية أمر بيد الله تعالى وعند الله عز وجل خير كثير.

ومع يقيننا بوجود الضعف ومعاناتنا منه، إلا أن الله تعالى فتح لنا آفاق الرجاء على مصراعيها لكي نزيل هذا الضعف كليا أو جزئيا؛ بقابلية بني آدم للحصول على القوة، وبما سخر لنا سبحانه من قوى ظاهرة وباطنة .

لحظات الضعف

تمر بالإنسان لحظات من الضعف يفقد فيها قواه كليا أو جزئيا، منها:

1 – وقت المرض وهو أحد اللحظات الصعبة على النفوس التي اعتادت العافية، وكلما احتاج المريض للآخرين أثناء قيامه بحاجاته الضرورية كلما كان شعوره بالضعف وربما بالمذلة أيضا، وهذه المشاعر تنتاب المريض ومن يحبونه.

2 – موت الأحبة الذين يمثلون دعما روحيا وشريكا أساسيا في الحياة من زوجة أو ولد أو والد أو صديق حميم.

3 – الاغتراب وشعور الإنسان بالوحدة سواء انتقل إلى بيئة أخرى أو شعر بالغربة بين أهله؛ لانشغاله أو انشغالهم ،أو لتباعد المسافات بين العقول والقلوب، وهو شعور مسبب للمرض أو حتى للموت.

4 – وقوع رب الأسرة تحت ضغط أفرادها واستسلامه لطلباتهم التي لا يستطيع تلبيتها، لأن دخله لا يحقق تطلعاتهم.

5 – كثرة الأسباب التي تثير السعار الجنسي وتلهب الشهوات الساكنة مما يؤثر على نفسية الإنسان ومقاومته، وقد يخطو خطوات في طريق الشيطان أو يسير إلى نهايته والعياذ بالله، وقد تتداركه رحمة الله فينجيه من هذا المستنقع. 

6 – الضعف أمام شهوة المنصب بما يعطي لصاحبه من قدرة وقوة قد تكون زائفة عند التأمل، لكن ما يلقاه من تقدير يجعله يقدم الغالي والنفيس لكي يحصل على مالا يستحق من مكان ومكانة ويواصل تنازلاته لكي يبقى.

7 – الضعف أمام شهوة الكلام رغبة في جذب الأنظار إليه فيكذب ويسخر ويقع في كل المنكرات ليحافظ على متابعيه

8 – وهن الأمة، إن التاريخ القريب والبعيد يشهد على مراحل التحول الحضاري في حياة الأمم وانتقال مراكز القوة والثقل والتأثير من مكان إلى مكان {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران: 140].إن الحديث عن ضعف الأمة يدمي القلب، كلما استهان بها عدوها واعتدى على حرماتها، مما يجعلنا نطرح  الأسئلة  التالية:

  • هل ما وقعت فيه الأمة من ضعف حدث بسبب سوء فهم البعض لطبيعة العلاقة بين الدنيا والآخرة، وأن المرأ كلما كان نصيبه في الدنيا أعلى كان نصيبه في الآخرة أقل؟
  • وبسبب سوء الفهم أيضا لأحاديث افتراق الأمة، وبسبب إهمال عوامل الإفساد الداخلية التي تنخر في جسد الأمة وتؤثر فيها أكثر مما تؤثر العوامل الخارجية. 
  • هل تحمل الأمة هم الخروج من هذه الحفرة العميقة التي وقعت فيها، أم أنها تعايشت مع هذا الوضع المزري على كافة الأصعدة؟
  • هل توكل هذه المهمة لأبنائها المخلصين؟ هل تصبر على ما تلاقيه من عقبات؟

إن إدراك نقاط القوة ومكامن الضعف، وكيفية التعامل مع لحظات الضعف التي تعتري الإنسان، وقبل ذلك وبعده الاستعانة بالله تعالى، كفيل بأن يمكن الانسان من التعامل مع القوى المحيطة به ويحسن إداره موارده العقلية والروحية والبدينة والمالية، بما يحقق له وضعا أفضل في هذا الكون ويحميه من كثير من الأزمات أو يخفف من آثارها.

من أسباب الضعف

تتعدد أسباب الضعف ونختار منها:

1 – ما ذكره النبي   من شرور كان يواظب على الاستعاذة منها، قال أنس بن مالك عن النبي ،كُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»[1] كل هذه أسباب للضعف الذي ينتهي بالعجز  المطلق.

2 – غياب القناعة حتى يتحول  طلب المال إلى غاية يبذل في سبيلها دمه وعرضه ومن صاحبهم وصاحبوه وأحسنوا إليه ودافعوا عنه، غياب القناعة يجعله يبيع هؤلاء مقابل أتفه الأثمان. ونريد أن نفرق بين الطمع والطموح؛ الطمع سعار نحو المادة لا يصاحبه عمل، الطموح تطلع إلى درجة أعلى مصحوب ببذل الجهود الكبيرة.

3 – اغترار الإنسان بقوته يجعله لا يبحث عن نقاط ضعفه، ويجعله كذلك يسقط في أول فخ ولا يحتاط بما يكفي.

علاج الضعف

يصاب الإنسان بالضعف ولكن يمكن أن يواجههمن خلال ما يلي:

1 – الايمان بأن أمور الكون بيد الله تعالى وأن القوة لله جميعا يهبها لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، وأن لله تعالى جنود السموات والأرض التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.

2- الذكر { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]، وإذا اطمأنت القلوب قويت واستطاعت أن تتغلب على كثير من العقبات، والذكر يجدد الإيمان بقوة الله تعالى.

3 – اكتشاف نقاط القوة بداخلنا والعمل على تنميتها.

4 – العمل على اكتساب أسباب القوة على تعدد مظاهرها؛ من قوة روحية وقوة عقلية وقوة بدينة وقوة علمية ،وامتلاك مصادر القوة التي أودعها الله تعالى في الكون من موارد طبيعية وحسن استغلال هذه الموارد بما ينفع الناس ويعمر الأرض .

5 – محاولة إصلاح الضعف باللجوء إلى الحكماء أهل الاختصاص وبما يقوم به المسلمون من تعاون على البر والتقوى.

6 – رعاية الأمة  لحال الضعيف  فلا تشق عليه.

7 – العفة التي تحول بيننا وبين الوقوع فيما حرم الله من نظرة خبيثة تفتح أبواب القلب لشياطين الإنس والجن، وهذه العفة هي صوت الفطرة، وثمرة أداء العبادات أداءا صحيحا، وأحد بركات رعاية المجتمع للأخلاق الحميدة اكتسابا وتخلقا  ومحافظة، مع حرص المجتمع على تيسير الحلال وإغلاق أبواب الحرام.

في الضعف فرصة للعودة

يشعر الإنسان أثناء ضعفه بحاجته إلى الله تعالى ويشتد تعلقه برب العزة والجلال والاستغاثة به سبحانه، ومن ثم فالضعف  فرصة لإصلاح ما أفسد وتجربة يدرك معها الانسان قيمة السير على الصراط المستقيم، ولعله إذا أوصله الله تعالى إلى ما يحب، أن يزال ذاكرا لفضل ربه شاكرا لنعمه سبحانه عليه بقلبه ولسانه وماله وبدنه، ومدركا لهذه الحقيقة الكبرى أن الذي يمنح قادر سبحانه وتعالى على أن يمنع، وأن وجود النعم أزمانا طويلة لا يعني أنها صارت جزءا من حياتنا.