كم مرة أحسست بالضيق والضجر إثر تصرف غير لائق من أحد جيرانك أو الجالس إلى جوارك في المواصلات العامة؟!.كم مرة استشطت غضبا وفار الدم في عروقك نتيجة “لفاجعة” قام بها أحد رواد السوق على مرأى ومسمع من الجميع؟!. كم مرة أصابك الذهول والدهشة واحتبست الكلمات في فمك إثر تصرف مزعج لأحد ضيوفك في أثناء زيارته لك؟!.

ترى ما الذي يدفعني ويدفعك للاستياء من هذه التصرفات؟

الإتيكيت

كلمة يعرف مضمونها كثير من الناس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وإن كانوا لا يتداولونها . بنفس هذا اللفظ وإنما تختلف بين عدة مسميات مثل (اللباقة – حسن التصرف – اللياقة – الذوق العام… إلخ). وربما تشير كل هذه المصطلحات إلى معنى أكثر دقة هو “احترام النفس والآخرين وحسن التعامل معهم”.

لماذا يفتقد المجتمع العربي للإتيكيت؟

يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: “بناء الأفراد على الأخلاق الفاضلة وبناء المجتمعات على التقاليد الشريفة ركن ركين في دين الله والتربية، كالزراعة والصناعة عمل يحتاج إلى جهد طويل وتشترك فيه عناصر كثيرة وليس كلاما مرسلا أو خطابا حماسيا… كيف ننشئ أناسا يحبون الإتقان ويعشقون الجمال والإجادة ويرفضون الخلل والفوضى؟ في أمة يكره دينها الفُرُط لماذا ينتشر التسّيب في إرادتها؟ وفي أمة يبنى فقهها على النظافة لماذا تنتشر القمامة والقذارة؟ أحيانا أنظر على حضارة الغرب فأجدها -على ما بها- أقرب إلى فطرة الله…”.

واستطرادا لتساؤلات الغزالي رحمه الله نتساءل أيضا: هل تفريط المسلمين في الأخلاقيات والذوقيات العامة داء مرير ومرض مستفحل أم أنه عرَض لمرض آخر أشد سوءا؟.

الاختيار الثاني هو الأقرب للصواب فاعتياد القبح وتداول السلوكيات السيئة قد أضحى عند شرائح كثيرة من أبناء الأمة العربية أمورًا مسلّمًا بها، وربما لا يَعرض للبعض مجرد التفكير في مدى صحتها.

الخراب النفسي

الخراب النفسي هو “سقوط الثقافة الذاتية للشخصية العربية”، ولا نريد بهذه الكلمات المؤلمة أن ننثر غبار التشاؤم، بل الهدف هو معرفة أصل المشكلة والداء للبحث عن العلاج.

وإذ يعزو البعض أسباب هذا الداء إلى نظرية “المؤامرة” التي بات الغرب يخطط لها منذ آلاف السنين، إلا أننا نؤكد أن كل مؤامرة يدبرها لنا الطرف الآخر لن تئول للنجاح إلا إذا هيأنا نحن لها الظروف والعوامل حتى تتحقق.

كفانا هربا من مواجهة أنفسنا بحقيقة الأمور وإسقاط كل خلل فينا على الاستعمار.. الانفتاح.. العولمة.. وغيرها من المصطلحات الرنّانة التي قد فاضت بالشكوى لأننا نحملها ما لا تطيق.

جذور الخراب

أولا: انحسار مفهوم الإسلام عند المسلمين.

الإسلام حركة في داخل النفس وعلى أرض الواقع.. وما كان من الممكن أن تستقر هذه العقيدة في نفوس المسلمين دون أن تتألق في واقع الحياة، وهو ما تجلى بأبهى صورة في المجتمع الإسلامي الأول بين أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بينما انحسر في مفاهيم ضيقة ونفوس مغلقة وعادات وأعراف اجتماعية أكثر منها أسس شرعية في مجتمعاتنا المعاصرة.

ثانيا: التفرقة بين الدين والسلوك وعزل الدين عن المجتمع.

الإسلام كمنهج حياة لا يقتصـر على العبادات وحدها، أو تشريعات الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث فحسب، بل يشمل كل المعاملات التي يمكن أن تنشأ في المجتمع سواء اجتماعية أو اقتصادية أو قانونية.. إلخ، وسواء كانت بين الأفراد أو المجتمعات، أما ما يحدث اليوم من قصر الإسلام في بعض الشعائر والعبادات وإقصائه عن إدارة وتنظيم حياة الناس في كل كبيرة وصغيرة فإنه أحد الأسباب الرئيسة للخراب النفسي الذي أصاب الأمة.

ثالثا: غياب الدور التربوي للأسرة.

تمثل الأسرة أهم المؤسسات التربوية التي يعهد إليها المجتمع بالحفاظ على هويته وضبط سلوكيات أفراده، وفي ظل الظروف الحالية من تفكك وانهيار داخلي في أركان الأسرة من البديهي أن تخرج أفرادا لا يتصالحون سواء مع أنفسهم أو مجتمعهم.

رابعا: تعدد المؤسسات التربوية ومن أهمها الإعلام.

بينما تمثل وسائل الإعلام أحد أهم الروافد التربوية المؤثرة في المجتمع معرفيا وسلوكيا، فإن اتجاه معظمها إلى نقل وتمكين الثقافات الخارجية المناقضة لقيم مجتمعاتنا العربية والإسلامية قد جعلها تؤدي دورا عكسيا مستهدفة تحقيق مصالح ربحية لفئة محدودة من القائمين عليها دون الالتزام بأي ضوابط أو معايير أخلاقية، ومن ثم كانت عامل هدم وتخريب للشخصية العربية في الوقت الذي كان يؤمّل فيها أن تكون من أهم عوامل البناء.

خامسا: ثقافة العلب وانتشار العنف المعنوي والبدني واللفظي.

نعم.. نحن دول العالم الثالث -إن صح التعبير- فجلّ المجتمع العربي والإسلامي يندرج تحت تصنيف الفقراء، وهو ما يجعلنا نتساءل في إطار هذا الواقع المرير: كيف لإنسان يقطن علبا خراسانية جامدة متلاصقة بشكل فج لا يدخلها الضوء ولا الهواء بل ربما لا يدخلها الماء كذلك.. كيف يُطالب بالذوقيات العامة وآداب السلوك؟!.

لقد أضحى المواطن العربي نموذجا صارخا لفأر التجارب الذي حقن بمحفزات ومنشطات أفقدته السيطرة على انفعالاته فتجد البشر لا يتحملون بعضهم قيد أنملة.

سادسا: ثقافة الحق المكتسب ومنطق القوة.

أضحى من البديهي عند الكثيرين أن الحق لا يؤخذ إلا بالقوة وفرض الأمر الواقع في كل شيء.. الطعام، الخدمات العامة، المرور والقيادة، المواصلات… إلخ.

وهو ما جعل الناس يتصارعون على أي شيء وكل شيء بصرف النظر عن مدى احتياجهم إليه؛ فهو “حق” ويجب أخذه “بالقوة” ولا يصح أبدا أن نترفع عنه.

نحن نتحدث عن مجتمع فقير، مُعدم، مُقيد ببطش القمع والسيطرة لعقود وعقود.. فكيف له أن يحافظ على تآلفه وتوازنه النفسي؟!.

ليس بالذوق وحده يحيا الإنسان

منذ عهد ليس ببعيد كانت الشريحة المثقفة في المجتمع تعزي نفسها بمقولة شهيرة وهي “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، ومن ذات المنطلق نقول إن هناك مقومات أخرى للحياة يجب أن تتوافر للفرد حتى نطالبه بعدها بالسلوك السوي المتوازن من احترام لنفسه وللآخرين.

وبالرغم مما سبق فالرؤية ليست بهذه القتامة.. فالعلاج لا يزال ممكنا، ولكننا نحتاج أن نبدأ من الأصل.. من الفرد؛ إذ نعمل على بناء الفرد وتوفير العوامل التي تساعده على التصالح مع ذاته ومجتمعه.


شيماء النعماني