لا تزال ظاهرة التوحد الطفولي تمثّل قلقاً لدى الأسرة في أرجاء العالم، ولا شك أن أهالي الأطفال المصابين بالتوحّد بحاجة متجدّدة إلى المعلومات والتوجيهات التربوية التي يمكن أن تساعدهم في علاج أبنائهم من هذا المرض الذي يزداد عدد المصابين به يوماً بعد يوم للأسف الشديد، فما هو التوحد؟ وما أسبابه وخصائصه وآثاره؟ وكيف يمكن تشخيصه وعلاجه؟ للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها سنقوم بجولة في كتاب (التوحد: أسبابه، خصائصه، تشخيصه، علاجه) للباحثة العراقية الدكتورة سوسن شاكر مجيد الذي جاء في تسعة فصول تدور كلها حول أسباب التوحد الطفولي وأعراضه وآثاره وكيفية تشخيصه وعلاجه.

مفهوم التوحد

حين نُلقي نظرة على تاريخ التوحد والأطباء الذين اهتموا به نجد أن “مودزلي” كان أول طبيب نفسي اهتم عام 1867 بالاضطرابات التي تسبب اضطرابات عقلية شديدة لدى الأطفال واعتبرها “ذهانات”، أما الطبيب النفسي الأمريكي “ليو كانر” فقد اهتم بمرض التوحد حوالي عام 1943 وقام بتأليف كتاب “طب نفس الطفل”، وتحدث عن التوحد الطفولي كاضطراب يحدث في الطفولة، وابتداءً من العام 1943 ظهرت تسميات متعددة تدور حول هذه الظاهرة منها: التوحد Autism، وذهان الطفولة Psychosis children، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه التسميات المتعددة تعكس التطور التاريخي لمصطلح (إعاقة التوحّد).

وعلى غرار هذه التسميات المتعددة، نشأت تعريفات عديدة لظاهرة التوحّد تدور في مجملها حول الانشغال بالذات عن العالم الخارجي، وعلى سبيل المثال يقول أحد هذه التعريفات إن أطفال التوحد هم “أولئك الأطفال الذين يعانون من الانسحاب الشديد من المجتمع، وفقدان التواصل، أو الفشل في تطوير الذات العلاقات مع الآخرين، والترديد الميكانيكي للكلمات والعبارات، والسلبية في التغيير، والإعادة المملة للأفعال ونطق الكلمات”.

ومع الوقت زادت الظاهرة المرضية، فأصبحت لطيف التوحد الطفولي أنواع عديدة، من أهمها: متلازمة اسبرجر، ومتلازمة الكروموسوم الهش، ومتلازمة لاندو كليفنر، ومتلازمة موبياس، ومتلازمة كوت، ومتلازمة سوتوس، ومتلازمة توريتي، ومتلازمة وليامز، ولا شك أن هذه الأنواع العديدة تدعونا أكثر من أي وقت مضى إلى البحث عن الأسباب الحقيقية وراء ظاهرة التوحد الطفولي المقلقة والصادمة حقاً والعمل على تفاديها كإجراء للوقاية من هذا المرض المحزن.

أسباب التوحد

اهتمت دراسات عديدة بظاهرة التوحد الطفولي من أجل الكشف عن أسبابه وخصائصه وأعراضه، وقد توصلت بعض الدراسات إلى أن من أهم خصائص وأعراض التوحد الطفولي: ضعف التفاعل الاجتماعي المتمثل في: التجنب الاجتماعي – اللامبالاة الاجتماعية – الإرباك الاجتماعي، وضعف الاستجابة للمثيرات الخارجية حيث تبدو حواس أطفال التوحد وكأنها أصبحت عاجزة عن أي مثير خارجي إلى جهازهم العصبي، كما أنهم يعانون غالباً من عدم الإحساس الظاهر بالألم، ولا يقدرون المخاطر التي يتعرضون لها.

وهناك مجموعة من العوامل المسببة للتوحد الطفولي والإعاقات ذات العلاقة به مثل: الإعاقة العقلية، وفصام الطفولة، والصرع، ونحن عندما ننظر إلى العوامل المسببة للتوحد الطفولي نجد أن هناك عوامل فسيولوجية (عضوية) كأمراض المخ، وعوامل بيوكيمياوية كارتفاع معدل السيروتونين في الدم، وعوامل اجتماعية مثل إحساس الطفل من الرفض من والديه، هذا بالإضافة إلى العوامل النفسية مثل مرض الفصام، والعوامل الإدراكية والعقلية.

ثم إن التوحد الطفولي له خصائص وأعراض عديدة، منها: فقدان الإحساس بالهوية الشخصية، وضعف استخدام اللغة والتواصل مع الآخرين، والقصور في أداء بعض المهارات الاستقلالية والحياتية، والسلوك النمطي المتصف بالتكرار، وهناك أمر آخر غريب جداً يتمثل في إيذاء الذات، فالطفل التوحدي قد يقوم بعضّ نفسه وقد يضرب رأسه في الحائط أو بعض الأثاث بسبب وبدون سبب معروف.

آثار التوحد

ولا شك أن التوحد الطفولي له آثار عديدة نحتاج أن نتوقف معها وندرسها، ولهذا فقد طرحت الدكتورة سوسن شاكر مجيد سؤالاً مهماً وهو: ماذا تعني ولادة الطفل التوحدي في الأسرة؟ وحاولت الإجابة عليه من خلال الوقوف مع الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة على وجود الطفل التوحدي في الأسرة، فذكرت أن الدراسات توقفت مع الآثار النفسية للتوحد الطفولي وتوصلت إلى أن معظم الأسر قد تتعرض لضغط نفسي شديد قد يصل عند بعضها إلى درجة المرض.

وهناك دراسات أخرى توقفت مع الآثار الاجتماعية للتوحد الطفولي، فاكتشفت أن أن وجود الطفل التوحدي في الأسرة قد يخلق جواً من عدم التنظيم الأسري، فتبرز الخلافات بين أفراد الأسرة، الأمر الذي يؤدي إلى مشاكل اجتماعية أخرى أكبر مثل انفصال الوالدين، ودخول الأسرة بشكل عام في عزلة عن المجتمع بسبب التنمر الذي يواجهه أطفالهم من طرف الأسر الأخرى، وهذه كلها مشكلات وآثار اجتماعية صعبة تهدد كيان الأسرة والمجتمع وتدعو المؤسسات والمراكز الطبية إلى العمل من أجل مكافحة هذا المرض الذي يغزو عالم البراءة فيعكر صفو الكبار والصغار.

ولا شك أن الآثار الاقتصادية للتوحد الطفولي لا تقل ضرراً من الآثار النفسية والاجتماعية، حيث إن وجود الطفل التوحدي في الأسرة يضيف إلى أعبائها النفسية والاجتماعية أعباء مالية واقتصادية مستمرة غالباً، فالطفل التوحدي يحتاج إلى متطلبات أكثر بكثير من غيره من الأطفال الآخرين في الأسرة نظراً لحالته الصحية والنفسية، الأمر الذي قد يتسبب في انقطاع الأم عن الدراسة والعمل لرعاية طفلها المصاب بالتوحّد.

تشخيص التوحد

بعد الوقوف على مفهوم التوحد وأسبابه وأعراضه وآثاره، يصبح من اللازم البحث عن الوسائل والأدوات التي يمكن استخدامها لتشخيص أطفال التوحد قبل البحث عن العلاج، وقد عقدت الدكتورة سوسن شاكر مجيد فصلاً خاصاً لتشخيص أطفال التوحد أكدت فيه أن عملية تشخيص أطفال التوحد تمر بعدة مراحل، من أهمها: مرحلة التعرف السريع على الطفل التوحدي، ومرحلة التأكد من وجود مظاهر السلوك التوحدي، ثم مرحلة دراسة الحالة، والملاحظة الإكلينيكية.

إذا كانت مرحلة التعرف السريع على الطفل التوحدي ليست معقدة بشكل كبير ولا تحتاج وقتاً خاصة إذا استحضرنا الأعراض الآنفة الذكر والدور الحيوي للوالدين في عملية التشخيص، فإن مرحلة التأكد من وجود مظاهر السلوك التوحدي تعتبر أكثر تعقيداً وتحتاج إلى الوقت والجهد والتركيز وعرض الأطفال على فريق متخصص من الأخصائيين يشمل: الأخصائي النفسي، وطبيب أطفال التوحد، وأخصائي القياس التربوي، وأخصائي علاج النطق، وأخصائي قياس السمع، وأخصائي اجتماعي، فهناك من يرى أنه “كلما زاد عدد الأخصائيين الذين يلاحظون سلوك الطفل في أوقات مختلفة وأوضاع متنوعة زادت احتمالات التشخيص للتوحد بشكل صحيح”.

ومع عرض الأطفال على فريق متخصص من الأخصائيين، إلا أن مرحلة دراسة الحالة تبقى من المراحل المهمة في التعرف على مظاهر التوحد الطفولي لدى الأطفال، لأنها تزود الأخصائيين بمعلومات جديدة حول خلفية الطفل وحالته الصحية العامة، ونموه الجسمي وتطوره الشخصي والتربوي والاجتماعي، كما أن الملاحظة الإكلينيكية تظل مهمة حيث تساهم في جمع المعلومات والتعرف على مظاهر النمو والخصائص السلوكية وكل ما يحيط بالطفل، من أجل الانتقال إلى عملية العلاج على بينة وبصيرة وانطلاقاً من معلومات علمية مدروسة.

علاج التوحد

“ما أنزل الله عز وجل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله”، هذا حديث نبوي شريف ينبغي الإيمان به لأنه يبثّ في قلوبنا الأمل ويحثنا على البحث عن العلاج لكل مرض مهما كان مستعصياً في نظرنا، والتوحّد كأي مرض لا بد أن يكون له دواء رغم أن البحوث الطبية لم تتوصل إلى علاج طبي شافٍ تماماً، ومع ذلك فهناك مجموعة من الطرق المتبعة في علاج أطفال التوحد، وقد عقدت الدكتورة سوسن شاكر مجيد فصلاً خاصاً تحدثت فيه عن تلك الطرق التي من أهمها: التحليل النفسي، والتحليل السلوكي التطبيقي، والعلاج التعليمي، وتطوير علاقات الصداقة ومهارات التواصل، وبالطبع العلاج الطبي بالعقاقير.

وحين ننظر إلى هذه الطرق العلاجية نجد أن التحليل النفسي كان أحد الأساليب العلاجية السائدة حتى السبعينيات من هذا القرن ويركز على تقديم الإشباع وتجنب الإحباط وتطوير المهارات الاجتماعية، في حين يركز العلاج السلوكي على الحاجات التربوية المختلفة لأطفال التوحد، أما العلاج التعليمي فترى الدكتورة سوسن شاكر أنه الأمل الأول أمام أطفال التوحد، ولذلك اقترحت خطة تنظيمية ثابتة لتعليم أطفال التوحد تعتمد على تنظيم المواد المطلوبة للدرس ووجود تعليمات واضحة، وأكدت أن من أبرز الوسائل التي يمكن اتباعها في تربية وتعليم أطفال التوحد: محاولة فهم سبب تصرفهم بطريقة معينة، وتشجيعهم على الملاحظة واكتشاف الأشياء التي يحبونها ويكرهونها.

ورغم أن الأطباء والباحثين نجحوا في اكتشاف طرق عديدة يمكنها أن تساعد في علاج أطفال التوحد، إلا أن باب الاكتشافات ينبغي أن يبقى مفتوحاً لكي ننجح في إيجاد علاج طبي شافٍ 100 % يعيد السعادة إلى الأنفاس ويبثُّ الأمل والبشر في البيوت، فتقل أعداد المصابين بهذه الظاهرة المرضية الصادمة للآباء والأمهات والإخوة والأخوات في كل مكان.

وقبل أن نختم ينبغي أن نقول إن هناك مجموعة من الأساليب النفسية والتربوية المتعبة في تنمية وتدريب مهارات أطفال التوحد، من أهمها: التدريب على المهارات الأساسية وتعليم لغة الإشارة والإيماءات، والتدريب على العناية بالذات والصحة الجسمية، بالإضافة إلى التدريب على التعاون العام ومساعدة الآخرين في المنزل، والتدريب على التنزه والمشاركة في المناسبات الاجتماعية واللعب والألعاب، وكل هذه الأساليب تساهم في التخفيف من وطأة هذا المرض ولو بشكل مؤقت، ولكن متى ينتصر الطب على التوحّد الطفولي؟