(زين الله تعالى محمدا ﷺ بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله تعالى يقول (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، هذه الكلمة نقلها القاضي عياض في كتاب الشفا.
بعثة خير الأنام، وسيد ولد آدم دون فخر، رسمت بداية الوحي الإلهي على الرسول ﷺ لإنقاذ الناس من هوة الضلال وضيق الدنيا إلى نور الهداية وسعة الدنيا والآخرة، إن بعثة الرسول ﷺ اتسمت بالرحمة، وهي مقصد عال كما بين ذلك القرآن الكريم بعبارته المجملة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) /الأنبياء/، وتشمل هذه الرحمة البشرية جمعاء، وأتت لفظة (رحمة) في الآية نكرة لإرادة التعظيم فكأن الرحمة تخلقت في ذاته ﷺ وانحصرت له، حتى صارت سجيته ﷺ متمكنة فيه، فهو صلوات الله عليه وسلامه في قوله وفعله، وحاله وتصرفه، وقلبه وقالبه رحمة، وهو القائل عن نفسه : (إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ) /أخرجه الدارمي وابن أبي شيبة بسند صحيح/، وإن مظاهر هذا المقصد العالي تلوح لنا من جانبين حسب ما ذكره العلامة ابن عاشور:
– الجانب الأول: تخلق نفسه ﷺ الزكية بخلق الرحمة
– الجانب الثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
كان عليه السلام شديد الرأفة والرحمة بعباد الله المؤمنين، ويرفق بهم، في القيام ببعض الطاعات، وأوضح أمثلة على ذلك كثرة الأحاديث التي بدأت بقوله ﷺ (لولا أن أشق على أمتي.. )
والمقصد الأول هنا – وهو خلقه عليه الصلاة والسلام – يمكن وصفه بالمقاصد الخلقية، فإن الله جبل نبيه ﷺ على خلق الرحمة واختصه بالذكر بمعانيه ومشتقاته في كتابه العزيز، وشرفه الله سبحانه بالرحمة في مقام الرسالة دون غيرها من أوصافه الأخرى الشريفة، وذلك لتتناسب سيرته وحياته بدعوته ورسالته، قال ابن عاشور في التحرير: إن محمدا ﷺ فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة، حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه، لذلك قالت عائشة: (كان خلقه القرآن).
فكانت رحمته ﷺ تشمل المؤمنين قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) /التوبة/، فكان عليه السلام شديد الرأفة والرحمة بعباد الله المؤمنين، ويرفق بهم، في القيام ببعض الطاعات، وأوضح أمثلة على ذلك كثرة الأحاديث التي بدأت بقوله ﷺ (لولا أن أشق على أمتي.. )، وذلك في مواطن .. في السواك مع كل وضوء، وفي الوضوء مع كل صلاة، وفي الخروج مع كل سرية تجاهد في سبيل الله.. وكان من مظاهر رحمته أنه ترك هذه الأفعال مخافة العنت على أمته، وجمع شملها، وتحبيب الإسلام إلى قلوب المؤمنين.
وكان من رفقه أنه يلاطف الصغير، ويلين الكلام للكبير، ويأخذ بيد السفهاء بالإعراض عن سفاهتهم، ولو كان الرسول على غير هذه الصفة، فكان فظا متشددا – وحاشاه – كان أدعى للتفرقة والتنفير، ولم تقم لأمته قائمة، يقول الله : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) /آل عمران/، ذكر القرآن هاتين الصفتين في مقابلة الرحمة، أحدهما: التهور المشار إليه بالفظاظة، وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب، لأن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة، وأبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية كما أشار الألوسي في روح المعاني.
ورحمته هذه امتدت إلى أعدائه من الكفار، فكان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بالحسنى، ويقابل أخلاقهم السيئة بدماثة ورقة، ففي حديث مسلم: أن رسول الله لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة».
والقضية الثانية تتمثل في ترسيخ مبدأ الرحمة في رسالة النبي ﷺ، وهي شريعة الإسلام، وهذه ترمز إلى المقاصد التشريعية من البعثة النبوية، يرى ابن عاشور أن مبدأ الرحمة في الشريعة الإسلامية تمحض في هذه الأمة لأن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة، وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها.. فاقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع الإسلامي لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.
مبدأ الرحمة في الشريعة الإسلامية تمحض في هذه الأمة لأن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة، وأن تدفع عنها المشقة
وإن مظاهر هذه الرحمة في التشريع الإسلامي تتمحور حول مبادئ خمسة مجملة في قوله تعالى: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) /الأعراف/.
يقول د. أحمد الريسوني: فهذه المبادئ الخمسة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحلال الطيبات، وتحریم الخبائث، وإبطال الآصار والأغلال، هي مبادئ ومقاصد للبعثة في حد ذاتها. ولكنها في الوقت نفسه تكون الأسس والأصول التي قامت عليها الشریعة الإسلامية، ویقوم عليها التشریع الإسلامي، ویجب أن یرجع إليها وینبني عليها كل اجتهاد إسلامي.
وهذه المبادئ حسب اختيار ابن تيمية – رحمه الله- أوصاف لكمال الدين وتمام الأخلاق، وهي ما بعث الله بها نبيه ﷺ فقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)، ونرى روابط بين هذه المبادئ يتكامل بعضها ببعض، فالأمر بالمعروف يتضمن إحلال كل طيب، كما أن تحريم الخبائث يندرج في معنى نهي عن كل منكر، وهي مما اختصت به هذه الأمة، وأتبع هذه المعاني برفع الإصر والغل، والمقصود بالإصر هنا في أصل اللغة هو الثقل الذي يعوق صاحبه عن الحركة، والغل هو ما يكبل به الأسير، إشارة إلى رفع الأمور الشديدة الثقيلة عن هذه الأمة، التي عرفتها الشرائع والأمم السابقة، وقد كان من جزئيات شرائع بني إسرائيل تحريم العمل يوم السبت، وتحريم الغنائم، ووجوب القصاص في العمد والخطإ معا.. ونحو ذلك، لذلك اتسمت الشريعة بالرحمة وجزئيات أحكامها بالتيسير ورفع الحرج.
وتبقى هذه الأمة مرحومة متى احتفظت بهذه المبادئ وطبقت معانيها ومقاصدها في جميع الأصعدة، وتتسم دائما بالخيرية ما لم تتخلف عن هذه الأوصاف ولم تجنح إلى التشدد والتعنت، وتتبلور هذه الخيرية التي هي مثال الرحمة في صدق الأمة وإخلاصها النصح للبشرية، والتزامها بالهدي الثابت، والعروة الوثقى ، فإن الأمة الإسلامية هي أنفع الامم وأعظمها صفة وقدرا لإرشادهم الناس إلى المعروف ونهيهم عن المنكر، قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) /آل عمران/، ومتى انسلخت الأمة عن هذه المبادئ انتفت عنها الخيرية، وبعدت عن الرحمة، يقول ابن تيمية: لو اتفقت الأمة على إباحة محرم أو إسقاط واجب، أو تحريم حلال، أو إخبار عن الله تعالى أو خلقه بباطل: لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف.