أكثر من ثمانية قرون لم يكل فيها الاستشراق عن محاولاته للنيل من القرآن الكريم، لم تضعف حلالها حجة القرآن، ولم يَخلق من كثرة الرد على منتقديه ومهاجميه، فكان “يعلو ولا يُعلى عليه”، فالقرآن معجزة في ذاته، فهو كلام الله سبحانه وتعالى، ففي العام (1143م) أُنجزت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، واستمر الاستشراق بمدارسه المختلفة في ترجمة معاني القرآن، ودراسته من مختلف الجوانب، وفي الوقت الراهن توجد مشاريع كبرى لدراسة القرآن، في فرنسا تحت إشراف المستشرق “فرانسوا ديروش” وفي ألمانيا تحت إشراف المستشرقة “أنجليكا نويفرت” بعنوان “الموسوعة القرآنية” الذي بدأ عام 2007 ومن المفترض أن ينتهي عام 2025م.
وفي محاولة للاقتراب من المدرستين الاستشراقيتين الفرنسية والألمانية يأتي كتاب “دراسات استشراقية معاصرة للقرآن الكريم: المدرستان الفرنسية والألمانية أنموذجا” للدكتور “الأمير محفوظ أبوعيشة”، والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية عام 2020 في طبعته الأولى، في (226) صفحة.
القرآن والاستشراق
يشير المفكر الراحل “إدوارد سعيد” أن عدد الكتب التي أنتجها الاستشراق في مائة وخمسين عاما عن الشرق الأدني بلغ ستين ألف كتاب في الفترة من 1800م حتى العام 1950م ، وهو جهد علمي ضخم له بواعثه، وانصرف جزء كبير من تلك الدراسات نحو القرآن الكريم في تكوينه وتدوينه، وتكاد الرؤية الاستشراقية للقرآن تدور حول أمرين:
الأول: أن القرآن كتاب “غير مرتب” يحتاج إلى ترتيب معقول يتماشى مع العقلية الغربية.
الثاني: اعتبار القرآن تلخيصا لأفكار النبي محمد-ﷺ- وصار ذلك الزعم هو أساس الكتابات الاستشراقية، فلم يضع الاستشراق احتمالا أن يكون القرآن وحيا إلهيا.
والمدرسة الفرنسية من أهم المدارس الاستشراقية وأقدمها، فيوجد في مكتبة باريس الوطنية أكثر من سبعة آلاف مخطوط عربي، كما أن أهم كراسي الدراسات الشرقية موجود في فرنسا، إذ أنشيء في القرن الثالث عشر الميلادي، وظهرت دراسات مبكرة عن القرآن الكريم، مثل دراسة الميتشرق ” بوستل” Guillaume Postel بعنوان “توافق القرآن والإنجيل” نشره عام 1543م، ونشر المستشرق الفرنسي “بوتيه” Pauthier كتابه “تاريخ القرآن” في باريس عام 1840م.
ومن المستشرقين الفرنسيين الذين تخصصوا في القرآن ” دانيال جيماري” Daniel Gimaret وهو من مواليد 1933، ومازال على قيد الحياة، وتخصص في التفسير المذهبي، ومن أشهر كتبه:”قراءة معتزلية للقرآن: تفسير أبي يحيى الجبائي”، والمستشرق “كلود جيليو” Claude Gilliot وهو من مواليد 1940، وهو من المتفرغين للدراسات القرآنية، وله ما يقرب من خمسين بحثا منشورا عن القرآن الكريم، أبدى فيها اهتماما بأمهات التفاسير، وأظهر فيها تعصبا كبيرا.
أما مدرسة الاستشراق الألمانية فهي قديمة وذات تأثير وثقل في الدراسات القرآنية، إذ عرفت اللغة العربية طريقها إلى الجامعات الألمانية مع القرنين السادس والسابع عشر الميلادي، ومع القرن الثامن عشر توثقت علاقات ألمانيا التجارية مع الشرق، فازداد الاهتمام بالعربية، ومن ثم القرآن الكريم، لكن الاهتمام الأكبر كان في القرن التاسع عشر مع المستشرق “دي ساسي” de Sacy أستاذ اللغة العربية والفارسية في باريس الذي قصده الطلاب الألمان خاصة المستشرقين: “إيفالد” Ewald,H، و “هاينريخ فلايشر” Heinrich Fleischer، وكان مدخلهما للقرآن لغوي، وتعد “جمعية المستشرقين الألمان” من أبرز الجمعيات الاستشراقية في العالم، واسسها “فلايشر” عام 1845م، وعرف الاستشراق الألماني قامات علمية كبرى، مثل: “هارتمان” و”كارل بروكلمان” و”جوزيف شاخت”، و”كارل بيكر” و”تيودور نولدكه”، و”زيجريد هونكه.
ومن الكتاب المهمة للاستشراق الألماني عن القرآن الكريم، كتاب “نجوم الفرقان في أطراف القرآن” نُشر عام 1842م للمستشرق “غوستاف فلوجل” Gustav Flügel ، وترجم “فلوجل” القرآن، لكنه غير في ترتيب السور والآيات، واعتمد كثير من المستشرقين الألمان على ذلك الترتيب، رغم معارضة بعض كبار المستشرقين الألمان لها مثل المستشرق “برجشتر”، أما “نولدكه” Nöldeke شيخ المستشرقين الألمان والذي عاش تسعين عاما، له كتاب بعنوان “تاريخ القرآن”، ويعتبر المستشرق “اوتو برتسل” otto pretzl من أكثر من اهتم بالدراسات القرآنية، خاصة القراءات، فنشر عدة كتب، منها: “التيسير في القراءات السبع”، و”المقنع في رسم مصاحف الأمصار” و”غاية النهاية في طبقات القراء” و”معاني القرآن”، وألف كتابا مهما بعنوان “مراجع القرآن وعلومه” و”رسالة في تاريخ علم قراءة القرآن”.
ويلاحظ أن الاستشراق ادعى بشرية القرآن، وسعى المستشرقون لإيجاد رابط بين تاريخ العرب قبل الإسلام وبين القرآن الكريم، وتحدثوا عن أثر البيئة المكية على بناء النص القرآني، وحاولوا إيجاد نوع من العلاقة بين القرآن التوراة، معتمدين على منهجية نقدية تُخرج القرآن من كونه وحيا وكتابا مقدسا إلى كونه كتابا بشريا، فجزء كبير من مشاكل الاستشراق مع القرآن يكمن في عدم الاستيعاب لمعاني القرآن ودلالاته؛ فالنص القرآني حمال أوجه، وفياض المعاني والدلالات، وبعض هذه الأمور والقضايا تستعصي في الفهم على الاستشراق، لذا سعى بعض المستشرقين للخروج من تلك المعضلة باللجوء إلى انتقاء مفردات قرآنية معينة والحديث عنها، أو مقارنة لغة القرآن بلغات أخرى
المشاريع الكبرى
تحدث الكتاب عن مشروعين كبيرين للاستشراق لدراسة القرآن، أولهما للمستشرق الفرنسي “فرانسوا ديروش” François Déroche، وهو صاحب مؤلفات متعددة عن القرآن، منها: ” القرآن ما بين القرنين الثامن والعاشر” و”القرآن” و”القرآن تاريخ متعدد”، وله فهرس عن المصاحف المخطوطة في المكتبة الوطنية بباريس، ورأس عام 2015 كرسي” تاريخ القرآن النص والنقل”، واعتنى “ديروش” بدراسة المخطوط القرآني من الناحية المادية، من حيث مادة المخطوط، ونَسخه وحروفه، وما احتواه من فنون، ويراه البعض مؤسسا لهذا العلم الجديد، فالرجل له ثقل علمي في هذا الجانب، لكنه لا يعترف بأن القرآن سماويا، فقد أنكر الوحي، مكتفيا بذكر أنه تجربة روحية.
أما المستشرقة الألمانية “أنجليكا نويفرت” Angelika Neuwirth فتحدث الكتاب باستفاضة عن مشروعها الكبير “الموسوعة القرآنية” Corpus Coranicum وهو مشروع بحثي ترعاه أكاديمية “برلين براندنبرج للعلوم” ويهدف إلى تحقيق أمرين أساسيين في البحث القرآني: أولهما: توثيق النص القرآني من خلال مخطوطاته، ومن خلال نقله الشفاهي (القراءات)، وثانيهما: تقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياق ظهوره التاريخي.
وقد حظي هذا المشروع بتمويل يمتد حتى العام 2025م، ويشارك فيه (12) باحث ومحقق، ويهدف التوثيق النص القرآني من خلال مخطوطاته، ويثير ذلك مشكلة تتمثل في أن التلقي الشفاهي هو أساس في القرآن من خلال التواتر، كذلك انتهاء دور نُسخ القرآن المتعددة منذ توزيع مصحف عثمان على الأمصار، فالقرآن يُثبت بالنص الشفاهي والنص الكتابي على السواء، إضافة إلى أن المنهجية الاستشراقية تسعى لتفسير القرآن بروح تستعلي على النص، ومن ثم فبعض المنهجيات الغربية لن تساعد في فهم النص خاصة التاريخية، لأن أسباب النزول لا تختزل النص، فهي تشير إلى بيان جانب من مقاصد النص ومعانيه، كما أن فهم القرآن يحتاج إلى فهم السنة النبوية وعلومها، وفهم الفقه وأصوله، وهي أمور لم تتوفر لتلك المشاريع، إذ هناك اقتصار على المخطوطات وبعض المعارف اللغوية، وكلاهما لا يصلح أن يقدم رؤية تفسيرية للقرآن الكريم، فالقرآن نص أكبر من أن تستوعبه تلك المناهج، كذلك فإن البحث في طبيعة المخطوطات يختلف عن البحث في موضوع القراءات .
وتصر “نويفرت” على أن القرآن ليس وحيا سماويا، وتطلق على القرآن مصطلح “خطاب نبوي عفوي”، ومعناه أن القرآن منتج بشري وليس إلهي، ومن ثم فهي تنكر الوحي، وتمضي في أوهامها للزعم بأن القرآن نص شعري، لتصف بعض الآيات بأنها “آيات إنشادية”، فهي تزعم إلى احتمال اقتباس القرآن من “مزامير داوود”، وهناك أربعة مداخل عامة رئيسية لهذا المشروع، هي: دراسة المخطوطة القرآنية، المقارنة بين قراءات القرآن، التعرف على الظروف التاريخية والدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية لعصر نزول القرآن، الدراسة التاريخية والأدبية للنص القرآني.
والحقيقة أن أحد عقبات الاستشراق في فهم القرآن الكريم هي أنه يسلك في التعامل مع القرآن نفس المناهج التي اتبعها مع دراسة التوارة والإنجيل، فالنص يُحسَبُ عُمُرُه بحساب أقدم المخطوطات المعثور عليها منه، لكن القرآن يختلف عنهما، إذ تواتر التلاوة هو أصل في إثبات النص القرآني، لذا عرف تاريخ الإسلام على امتداد عصوره ظهور طبقة القراء، الذين يحفظون القرآن بالتواتر بأسانيد معروفة ومتصلة حتى النبي-ﷺ.