احتل نقد الفكر الديني  حيزا كبيرا من اهتمامات الفكر العربي المعاصر، حتى أنه أصبح موضوعة قلما يوجد من لم يتناولها من أقلام الاتجاهات غير الدينية سواء في ذلك كبار الكتاب المطلعين على تراث الفكر الديني أو الكتاب المتأثرين بما يكتبه أولئك.

ودون تقليل من أهمية ما كتب في هذا المجال فإني كقارئ لبعض هذا النقد أود أن أسجل مجموع ملاحظات نقدية سريعة تبدى لي أن الإدلاء بها ضروري من أجل “نقد نقد الفكر الديني” لتمحيص أساليبه وطرقه.

وهذه الملاحظات ستكون كلية منصبة على المنهج الكلي لنقد الفكر الديني ولن تكون محاججة جزئية لما يصل إليه من نتائج.

نقد ذاتي؟ أم نقد من الخارج؟

من أول الملاحظات التي ترد على نقد الفكر الديني تذبذبه الواضح بين أن يكون نقد ذاتيا من داخل منظومة الفكر الديني أو نقدا خارجيا ينتمي إلى “فكر غير ديني”

وسبب هذا الاضطراب نظرة هذا النقد للدين الذي يَنْسِب إليه الفكر المنقود، فهو -في غالبيته- لا يسعى لنقد الدين نقدا خارجيا اعتمادا على اللادينية، ولكنه أيضا لم ينتقل إلى اعتماد الدين نفسه معيارا في تقويم الفكر الديني الذي يوحي باختلافه مع الدين.

ومن المعلوم أن النقد الذاتي والنقد الخارجي يختلفان في طريقة الاستدلال والاحتجاج اختلافا كبيرا مداره على ما يلي:

– أن النقد الذاتي يقوم على الاحتجاج بالمبادئ والمفاهيم الأساسية لنفس الفكر المنقود.
– أما النقد الخارجي فإنه يلجأ عند استدلاله إلى مبادئ فكر آخر (وفي هذه الحالة تعتبر غير ملزمة لمن ينتمي للفكر المنقود ) أو مبادئ كلية يتفق عليها الفكران ( وفي هذه الحالة لا بد من التأكد بالفعل من كلية هذه المبادئ وتسليم الفكر المنقود بها)

الشك “غير المنهجي”

يغلب على كثير من الكتابات المندرجة في إطار “نقد الفكر الديني” الانطلاق -تصريحا أو تلميحا-  من ضرورة مساءلة المسلمات الجاهزة، ونقدها وتمحيصها، وتصنف بعض هذه الكتابات –وخاصة من الكتاب المبتدئين- عملية المساءلة هذه على أنها “شك منهجي” يبحث صاحبه عن الحقيقة أين كانت.

لكن الوقوف على نتاج عملية المساءلة هذه يدل بوضوح على أنها ليست بحثا عن الحقيقة يسائِل كلَّ طرق المعرفة التي تقدم الحقائق الكبرى، وإنما هي مجادلة أيديولوجية ضد الحقائق الدينية كلها أو بعضها.

النقد الذاتي يقوم على الاحتجاج بالمبادئ والمفاهيم الأساسية لنفس الفكر المنقود

إنه في الحقيقة شك غير واع أو لنقل إنه تشكيك مذهبي في الفكر الديني انطلاقا من الفكر العقلاني ذي الصبغة غير الدينية.

على أنه ينبغي التنبه إلى أن درجات الخلط بين نقد الفكر الديني ونقد الدين نفسه تختلف لدى هذه المدرسة، ففيها اتجاهات تسعى إلى أن تميز النقد من نقدها للفكر الديني، وفيها اتجاهات تجعل هدفها تتخذ من الفكر الديني مطية لنقد الدين نفسه، وهذه الاتجاهات هي المعنية بهذه الملاحظة.

زَعْمُ القطيعة بين الدين والفكر الديني

تسعى الاتجاهات غير الرافضة للدين في مدرسة “نقد الفكر الديني” إلى إظهار الفكر الديني وكأنه منقطع الصلة بالدين في بنائه المنهجي وطرائق تفكيره، وأكثر ما يركزون عليه في هذا الصدد أن الدين مجموعة قيم عليا وأن الفكر الديني ركام هائل من التفاصيل التي أنتجها رجال الدين في ظروفهم الخاصة.

لكن هذه القراءة لا تكلف نفسها عناء إثبات هذا التهمة، وإنما تنطلق من تصورها الفلسفي الخاص الذي يقوم على أن الدين يجب أن يكون متعاليا عن “المدنس الدنيوي” ومعلوم ان هذا التصور تعود جذوره لفكرة “الإله المتعالي عن الاهتمام بأمر العالَم” عند أرسطو

ويغفل هؤلاء عن أن الدين الإسلامي بطبيعته مغاير تماما لنظرية تعالي الدين عن الواقع، ثم يغفلون –أو يتغافلون- عن الصلة المنهجية الواضحة بين الفكر الديني الإسلامي وبين الإسلام المتمثلة في مناهج توليد الأفكار الاجتهادية (للوقائع المتجددة) من النص الديني  (مقاصد الشريعة، أصول الفقه، أصول الدين)

إن “نقد الفكر الديني” لم يستطع مساءلة هذه المناهج مساءلةً مكتملة تثبت عدم ملاءمتها للنص الديني وإيجاد مناهج أكثر ملاءمة، وظل يدور بين تجاهل هذه المناهج أصلا، أو نقدها جزئيا، أو استيراد مناهج من فلسفات أخرى لتطبيقها على الإسلام (مثل فكرة تاريخانية النص الديني)

الاعتماد على المصادر المنتقِدة

على كثرة الكتاب المتصدرين لنقد الفكر الديني بين المثقفين العرب؛ فإن قلة قليلة منهم هي التي اطلعت على هذا الفكر بطريقة مباشرة من خلال قراءة كتبه ومعرفة مناهجه.

أما الغالبية العظمى فإن اطلاعها على هذا الفكر وقع من خلال الكتب المتخصصة في نقده، وبالطبع يقع تفاوت بين هؤلاء الكتاب في أهمية المصادر التي أطلعوا عليها فبعضهم يطلع على مصادر تسائِل الفكر الديني بنوع من الموضوعية وبعضهم الآخر يطلع على قراءات مبتسرة، وبعضهم يطلع على مجرد مقالات اعتمدت هي بدورها على مصادر غير مباشرة في تسلسل يصل في بعض الأحيان إلى وسائط عديدة.

تسعى الاتجاهات غير الرافضة للدين إلى إظهار الفكر الديني وكأنه منقطع الصلة بالدين في بنائه المنهجي وطرائق تفكيره

ومن الواضح أن أكبر خطأ تقع فيه مساءلات المذاهب الفكرية هو أن تعتمد، في اطلاعها على الفكر الذي يريد مساءلته، على المصادر التي تنتقده لأنها في تلك الحالة تكون قد حكمت على نفسها مسبقا بتنبي نتائج النقد السابق، هذا فضلا عن أنها لن تطلع على هذا الفكر مكتملَ البنية المعرفية وإنما ستطلع على “أشلاء” معرفية تركز عليها عملية النقد عادة.

ويتضح الخلل الكبير في هذا الأمر إن تذكرنا أنه لا حاجة مطلقا لعملية الاعتماد على المصادر غير المباشرة لأن تراث الفكر الديني موجود وبنفس اللغة التي يكتب بها منتقدوه مما يجعل الاطلاع عليه أمر في غاية اليسر.

التعميم والإبهام

من عيوب نقد الفكر الديني لجوءه إلى أسلوب التعميم والإبهام عند المناقشة، بحيث يجد القارئ صعوبة حقيقية في معرفة الفكرة التي يريد الكاتب نقضها والخلفية التي يعتمد عليها في مساءلتها.

ومن الأمثلة على ذلك النقد الكاسح الذي يوجهه كُتَّاب نقد الفكر الديني لما يسمونه “ذهنية التحريم” السائدة في الفكر الديني، لكن هذا النقد لن يوضح لنا ما هو المقصود بذهنية التحريم هذه، ولن يبرز لنا تجلياتها في الفكر الديني، وإنما سيتجه إلى ما يزعم أنه آثار لهذه الذهنية على العقل العربي والإسلامي من كبت للحريات و تشويه للنفسيات وتكبيلها بالشعور الدائم بالذنب، بل يصل به الأمر إلى تفسير كل الإحباط والتخلف الذي مرت به الأمة بهذه الذهنية التحريمية التي لم يوضح لنا ماهي؟

والواضح أن من أسباب هذا الغموض أن هذا النقد لا يريد -في غالبه- التوضيح في نقده خوفا من الوقوع في نقد الدين وهو ينقد الفكر الديني، وهذا الخوف بعضه ناتج من تقدير للدين بالفعل ولكن أصحابه لم ينطلقوا في نقدهم من منهجية تميز تداخل الدين والفكر الديني، ولكن بعض هذا الخلط والخوف من الوقوع في نقد الدين يتعمد الإبهام لأنه يريد نقد الدين نفسه لكنه لا يجرأ على ذلك.

والمثال السابق (نقد ذهنية التحريم) يوضح الأمر: فبعض من ينتقدون ما يسمونه شيوع التحريم في الفكر الديني متأثرون بالحريات المطلقة في الفكر العلماني دون رفض أصل التحريم الديني، لكنهم عاجزون عن القيام بمساءلة تثبت أن الفكر الديني تجاوز التحريم الموجود أصلا في الدين، وبمقابل هؤلاء يوجد من غلاة العلمانيين من يرفض أصل التحريم الديني ولكنه يوارب في نقده ويتخذ من نقد الفكر الديني “حصان طروادة”.

التجزيئ الكاريكاتوري

الفكر الديني منظومة متكاملة في أسسها وطرق الوصول للمعرفة فيها، كما هي متكاملة في مجالاتها أخلاقا وعقيدة (=رؤية للكون) وأحكاما للسلوك البشري في جوانب الحياة المختلفة، وهي تستمد هذا التكامل من اعتمادها على الدين نفسه عبر آليات استنباط محددة وموضحة.

لكن مدارس نقد الفكر الديني لا تتجه لمساءلة هذه المنظومة بقدر ما تهتم بنقدها بصفتها أجزاء لا يحكمها قانون ناظم، بل في أحيان كثيرة يصل الأمر إلى نقد جزئيات متناثرة منزوعة من سياقها بصيفة كاريكاتيرية.

من عيوب نقد الفكر الديني لجوءه إلى أسلوب التعميم والإبهام عند المناقشة

وكثيرا ما تثمر هذه الطريقة في كسب المعركة ضد الفكر الديني خاصة حين تقدم بأسلوب أدبي (روائي، تمثيلي، سينمائي) لكنها في الحقيقة لا تغني شيئا في ميدان المحاججة المنطقية.

ومن المهم التنبيه إلى أننا لا نغفل عن تلك الكتابات التي تنتقد المنظومة الدينية ككل، لكن تلك الكتابات واضحة في أنها تنتقد الدين نفسه ولا تقدم نفسها نقدا للفكر الديني ومن ثم فهي غير داخلة في الإطار الذي نعنيه.

وكخلاصة لهذه الملاحظات: نقول إن المدرسة العقلانية العربية المحدثة التي تسعى إلى تقويم التراث والفكر الإسلاميين اعتمادا على العقلانية الأوربية لا تزال بحاجة إلى مراجعة حقيقية لآليات عملها بحيث توضح متى وكيف تكون العقلانية الغربية معيارا ومتى وكيف تكون مجرد تجربة يقاس عليها؟