لشهر رمضان منزلة سامقة في نفوس المسلمين عامة وذلك لما فيه من فضائل جمة ولما له من شمائل عدة بيَّنها لنا الحبيب المصطفى . ولذلك حرص الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم التابعين على اغتنام كل لحظة في هذا الشهر الفضيل حتى تربو الحسنات وترتفع الدرجات. فمن المفيد أن نتتبع ونستعرض كيف كان هدي الصحابة والسلف الصالح في رمضان فنأخذ منهم القدوة ونلتمس فيهم الهمة؛ لم لا وهم خير القرون، وهم من اقتدوا بالمعلم الأول محمد .. فنراهم في رمضان قد انشغلوا بكثرة قراءة القرآن والصلاة فرضا ونفلا في الجماعات وبطول القيام، وبالذكر والدعاء والاستغفار باليل والنهار وبالأسحار، وبالصدقة والاعتكاف، ثم تراهم مع اجتهادهم يدعون بقلوب مشفقة أن يتقبل الله منهم ما كان في رمضان. فهاك عن بعضهم لمحات في شهر الهمة والخيرات.

من الصحابة

أبي بكرالصديق : عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر قال: سمعت أبي يقول: “كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر.”

عمر بن الخطاب : قال أبو عثمان النهدي: “أمر عمر بثلاثة قراء يقرؤون في رمضان، فأمر أسرعهم أن يقرأ بثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ بخمس وعشرين، وأمر أدناهم أن يقرأ بعشرين.

قال السائب بن يزيد: “كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة

عثمان بن عفان : عن السائب بن يزيد قال: “وكانوا يقرؤون بالمائتين وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان من شدة القيام..

وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة (كل ليلة طول السنة في ركعة واحدة).

عبد الله بن عمر: كان ابن عمر لا يفطر في رمضان إلا مع اليتامى والمساكين، وربما لا يفطر إذا علم أن أهله قد ردوهم عنه في تلك الليلة. وكان رضي الله عنه من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، إنما كان يرسله إلى الفقراء والمساكين والسائلين، فقد رآه أيوب بن وائل الراسبي وقد جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشتري لراحلته علفاً بالدين، فذهب أيوب بن وائل إلى أهل بيت عبد الله وسألهم، فأخبروه: “إنه لم يبت بالأمس حتى فَرَّقَهَا جميعًا، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره وخرج، ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها فقال إنه وهبها لفقير..”

ذكر نافع عن ابن عمر أنه كان ينام قليلا من الليل ويتهجد وكان يسأل نافعا هل أسحرنا (أي هل جاء وقت السَحر) فإذا قال نعم أوتر ثم جلس يستغفر.

الأئمة الأربعة

الإمام الشافعي: ذكر ابن رجب رحمه الله ان للشافعي ستين ختمة يختمها في غير الصلاة.(بمعنى انه يختم في الليل مرة وفي النهار مرة).

وعن أبي بكر بن أبي طاهر قال: كان للشافعي في رمضان ستون ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة.

الإمام أبو حنيفة : قال ابن رجب رحمه الله :” وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك” (أي ستين ختمة يختمها في غير الصلاة.)

الإمام مالك : كان مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف وكان الامام مالك بن انس لا يفتي ولا يدرس في رمضان ..ويقول “هذا شهر القرآن..

الإمام أحمدبن حنبل : كان الامام أحمد يغلق الكتب ويقول: “هذا شهر القرآن..

من التابعين وتابعيهم

البخاري : قال مسبِّح بن سعيد: كان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة.

وكان الإمام البخاري -رحمه الله- إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن. وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: “عند كل الختم؛ دعوة مستجابة.

سفيان الثوري: كان سفيان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.

أبي محمد اللبان : ذكر الحافظ الذهبي عن أبي محمد اللبان أنه أدرك رمضان سنة سبع وعشرين وأربعمائة ببغداد فصلّى بالناس التراويح في جميع الشهر فكان إذا فرغها لا يزال يصلي في المسجد إلى الفجر، فإذا صلى درّس أصحابه. وكان يقول: “لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً. وكان ورده لنفسه سبعا مرتلاً”.

قتادة السدوسي: قتادة بن دعامة السدوسي، وكان ضرير البصر، وكان يختم القرآن في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة.

أبا بكر بن الحداد :  قال أبو بكر بن الحداد : ” أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة ، فأكثر ما قدرت عليه تسعا وخمسين ختمة ، وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة .

زبيد اليامي : كان زبيد اليامي  إذا حضر رمضان أحضر المصحف وجمع إليه أصحابه.

وكيع بن الجراح : كان وكيع بن الجراح يقرأ في رمضان في الليل ختمةً وثلثاً، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العصر.

ابن أبي ملكية : عن نافع بن عمر بن عبد الله قال: “سمعت ابن أبي ملكية يقول: كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أنّ أحداً يسثقل ذلك.

أبو رجاء : أبو الأشهب قال: “كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام”

ابن سيرين : عن هشام قال: “كان ابن سيرين يحيى الليل في رمضان.”

المأمون : عن ذي الرياستين قال: “إن المأمون ختم في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمةً ، أما سمعتم في صوته بحوحة؟ إن محمد بن أبي محمد اليزيدي في أذنه صمم ، فكان يرفع صوته ليسمع ، وكان يأخذ عليه.”

أبي العباس بن عطاء : عن أبي العباس بن عطاء أنه كان لـه في كل يوم ختمة ، وفي شهر رمضان كل يوم وليلة ثلاث ختمات ، وبقي في ختمة يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة ليستروح إلى معاني مودعها ، فمات قبل أن يختمها .

زهير بن محمد : عن محمد بن زهير بن محمد قال : كان أبي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في وقت شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان

سعد بن إبراهيم : عن ابن سعد قال: “كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، لم يفطر حتى يختم القرآن وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. وكان كثيرا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه رحمه الله.”

احتضر أحد السلف فجلس أبناءه يبكون فقال لهم: “لا تبكوا فوالله لقد كنت أختم في رمضان في هذا المسجد عند كل سارية 10 مرات” وكان في المسجد 4 ساريات..أي ختم 40 مرة في رمضان..

قد يقول قائل أن النبي نهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، وهنا يقول ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان والأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم، كما سبق.

وكان السلف رحمهم الله يحبون طول القيام في هذه الليالي فكثيرا ما يُذكر أنهم كانوا يصلون طوال الليل حتى إذا انصرفوا يقولوا لخدمهم أسرعوا بالسحور أسرعوا..

عند الإفطار

كان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروّحهم (أي يستخدم لهم مروحة يدوية للتهوية)… منهم الحسن وابن المبارك.

وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم منهم عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، وداود الطائي ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل.

قال أبو السوار العدوي: “كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه”

إطالة القيام

قال الشيخ ابن جبرين: “ذُكر أن أهل مكة في عهد أواخر الصحابة كانوا يصلون ثلاث وعشرين ركعة ولكنهم كانوا يطيلونها بحيث أنهم كلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا فاستراحتهم هذه لأجل طول القيام فسميت هذه الصلاة صلاة التراويح.

ويضيف: “وكان أهل مكة بعد الاربع ركعات بدل الراحة يطوفون بالبيت الحرام – حيث أنهم كانوا يصلون فيه – سبعة اشواط واستمر ذلك عدة سنوات وسمع بذلك اهل المدينة فقالوا أنه ليس عندنا المسجد الحرام لنطوف به ونريد أن ننافس أهل مكة فبدلا من الطواف كانو يصلون ثلاث أو أربع ركعات بين كل أربع ركعات قيام فكانوا يصلون ست عشرة ركعة زيادة على صلاة قيام أهل مكة. وزاد بعضهم إلى أن جعلها إحدى وأربعين ركعة. فإذا كانت الليالي في الشتاء أطالو القيام والأركان وزادوا في الركعات… كما كانوا يكرهون ان يقتصر القارئ على ختمة واحدة بل كانوا يختمون عدة مرات وذلك تلذذا بسماع القرآن. وقال الفقهاء يُكره أن يقل عن ختمة فإن كان اكثر فهو أفضل.”

وقد كانت طائفة من الصحابة والتابعين يقومون نصف الليل أو ثلثه او ثلثيه كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة المزمل (أي حسابيا ما بين أربع وثمان ساعات). وكان إذا فات أحدهم قيام ليلة (جماعة أو فرادى) عد نفسه مصابا.

سبل الثواب جمة

كان بعض السلف رحمهم الله إذا صاموا جلسوا في بيوتهم وذلك خشية أن يتلوث الصيام أو أن يفسد او أن ينقص أجره.

وكان كثير منهم إذا دخل رمضان أو كان منتصفه أعتقوا الرقاب. يشتري أحدهم الرقبة من نفيس ماله ثم يعتقها يرجون العتق من النار.

وكان بعضهم يوصي بعضاً بأن لا يكون يوم صوم أحدهم كيوم فطره، فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه- قال: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

حال السلف الصالح في آخر شهر رمضان

وكان السلف في آخر الشهر يظهر عليهم الحزن والخوف خشية عدم قبول أعمالهم، ولقد رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال: “إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين”.

قال بعض السلف: “كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم.”

خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر فقال في خطبته: ” أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوماً وقمتم ثلاثين ليلةً وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا أدري أيقبله مني أم لا؟

وعن الحسن قال: “إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون… ” وعن ابن مسعود أنه كان يقول: “من هذا المقبول منا فنهنيه ومن هذا المحروم منا فنعزيه أيها المقبول هنيئاً لك أيها المردود جبر الله مصيبتك.”

نسأل الله العظيم أن نقتدي بالنبي الكريم عالي الهمة وبالصحابة والتابعين أصحاب العزمة في ترتيلهم وعلمهم وعملهم بالقرآن والإحسان في الصيام والإكثار من الصلاة والقيام وفعل الخيرات وترك المنكرات وزيادة الصدقات، إنه ولي ذلك ومولاه.

مصطفى الخطيب