عند الحديث عن ميراث الأبناء وما ينبغي أن نتركه لهم، فإنه لا يشك أحد في محبة الوالد لأولاده؛ هذه المحبة قد تكون عاقلة تنتج رجالا صالحين ونساء صالحات، وقد تتجاوز حدود الرشد فتُهلك من تحب وتجعل منهم وبالا على أنفسهم وعلى المجتمع.

وسعيا من الإنسان  لإسعاد أبنائه في حياته وبعد مماته؛ نسأل أنفسنا ما الذي يمكن أن نقدمه لأبنائنا بعد أن نتركهم وحدهم يواجهون الحياة؟

ولنا أن نسأل أنفسنا قبل أن نبدأ في تعداد ما نتركه لذرياتنا:

  • هل في ذهننا أن نترك شيئا لهم غير المال؟
  • هل نترك لهم زادا ينفعهم في أوقات الحاجة؟
  • وهل ما نتركه نصنعه في لحظة أو يوم أم أننا نحتاج لأن ننوي في بداية كل يوم أن نصنع شيئا ينفع أبناءنا في حياتنا وبعد مماتنا؟

وإذا تفكرنا فيما يجب أن نتركه لأولادنا نذكر:

1. العمل الصالح: خير ما يورث

خير ما نتركه لأبناءنا عمل صالح نحسن به إلى أنفسنا ابتداء ونحسن به إلى ذرياتنا. هذا العمل يبقى بعد أن نترك الدنيا، تبقى ثمرته وبركته ونفعه لأبناءنا.

وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى بقاء أثر العمل الصالح بعد رحيل صاحبه، ففي سورة الكهف حين ترك رجل صالح كنزا لأبنائه الصغار واستودع الأبناء والكنز رب العزة والجلال، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، أودع كنزه تحت جدار، مرت الأيام وتأثر الجدار بمرور الزمن كاد أن ينهدم وينكشف الكنز المخبوء، ليبقى الأولاد بلا عائل ولا مال.

لكن خير الحافظين سبحانه وتعالى أرسل من خيار عباده نبي كلمه تكليما هو موسى عليه السلام ومعه العبد الصالح صاحب المنزلة العالية عند الله تعالى لكي يرمما الجدار ويحافظا على الكنز. ساق الله تعالى هذه القصة وخلدها في كتابة الكريم لكي نتذكر في كل جمعة ونحن نقرأ سورة الكهف كيف ينفع العمل الصالح أبنائنا:

﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82].

قال ابنُ المنكدرِ: «إن اللَّهَ ليحفظُ بالرجلِ الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويراتِ التي حولَهُ، فما يزالونَ في حفظٍ من اللَّهِ وسترٍ». [1]

2. التدريب على العمل الصالح ومكارم الأخلاق

من خير ما نورثه لأبنائنا أن ندربهم على العمل الصالح، ولا زالت كلمات صاحبي تترد في أذني حين قال لي: “إن والده كان يصطحبه وهو صغير لأداء صلاة الفجر في الليالي المظلمة الباردة”، مع مرض الوالد بقي محافظا على صلاة الفجر واصطحاب أبنائه.

ولا يتوقف العمل الصالح الذي نُعلّمه لأبنائنا على الصلاة والصيام والزكاة والحج، فالأخلاق الحسنة علما وعملا من أعظم الأعمال الحسنة.

معالجة المشكلات الاجتماعية بالتربية

  • سوء الخلق: إننا لنشكو من فظاظة بعض الأبناء وعدم تقديرهم للكبار وتسرعهم في المحبة والعداوة وعدم تقيدهم بقواعد التفكير السليم، لكن البعض لا يفعل شيئا للتخلص من هذه الطريقة السيئة في الحياة.
  • الطلاق المبكر: ونشكو من حالات الطلاق الكثيرة التي تكون بعد مدة يسيرة من الزواج، وربما يكون بعض أسبابها أو أهمها: أن الزوج لم ينشأ في أسرة تعلمه كيف يكون ربا للبيت، لم يتدرب على أن يتحمل مسؤولية نفسه وإخوته الصغار قبل أن يتحمل مسؤولية زوجته في المستقبل.
  • تأهيل الفتاة: ولم تنشأ الفتاة على أن تكون زوجة تقدر متاعب زوجها وتنظر إلى الحياة الزوجية على أنها سكن ومودة ورحمة، وأن كل حق يقابله واجب، وأن الأسرة لكي تنهض لابد أن يتساند الزوجان لا أن يتعاندا.

علينا أن ندرب أبنائنا كيف يختار الفتى والفتاة من يفتحون آذانهم وقلوبهم ليسمعوا منهم حتى يكونوا من عباد الله الصالحين الذين وصفهم الله تعالى بقوله:

﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 18].

فلا يسمعون لكل مخرب يفسد البيوت حقدا على استقرارها وما يشعر أهلها من سعادة وألفة. على الأسرة التي ترجوا الخير لأبنائها أن تدربهم على صناعة البيت الذي يقف أمام عواصف الصراعات المفتعلة ولا يذكر أفراده ما كان بينهما من ذكريات سعيدة ومواقف طيبة.

إننا نشكو من توقف بعض أعمال الخير لأن رب الأسرة قد مات دون أن يذكر لأبنائه ما يقوم به من معروف أو يعلمهم كيف يقومون به وما هي منافعه لهم.

وإذا كانت بعض العبادات ومحاسن الأخلاق صعبة في البداية فإنها تتيسر ويتعود الصغير عليها بالتكرار والصبر حتى لا يكاد يستغني عنها بعد ذلك، وتتحول إلى جزء من حياته تمثل زادا روحيا يشعر بالحاجة إليه إذا لم يقم بها في الوقت المعتاد، ولعل الأبناء يذكرون فضل والديهم ويدعون لهم عندما يقومون بهذه العبادات.

3. النصيحة الصادقة: خلاصة التجارب

من أثمن ما نتركه لأبنائنا ذلك أنها خلاصة تجربتنا وتجربة من قبلنا، وكلما كانت قليلة الكلمات صادقة التعبير محملة بالحب كان لها وقع في القلب.

ولعل ما نراه من انصراف الأبناء عن سماع نصائح الوالدين يحملنا على ترك النصيحة، إذ للأبناء مصادر أخرى لطلب النصيحة ونظرتهم لآبائهم وأمهاتهم أنهم يعيشون في الماضي ولا يدركون الحاضر ولا يحسنون التفكير في المستقبل مما يسد آذانهم ويعمي عيونهم.

ومن النصائح الباقية والتي تفتح أبوابا كثير من الفكر وحسن الصلة بالله والسعي لرضوانه سبحانه ما جاء في وصية الإمام أحمد لابنه عبد الله: «قال عَبْدُ اللَّهِ: أَوْصِنِي يا أَبَتِ، فقال؟ يا بُنَيَّ انْوِ الخَيْرَ؛ فَإِنَّكَ ‌لا ‌تَزالُ ‌بِخَيْرٍ ‌ما ‌نَوَيْتَ الخَيْرَ.» [2]

لا تزال النصيحة كالبذرة تنتظر أن ينزل الله تعالى عليها المطر لكي تنبت وتثمر، ولا تزال النصيحة بشروطها التي ذكرناها كامنة في النفوس حتى يدرك أبناؤنا أنها سديدة وتسدد خطواتهم على دروب الحياة.

4. الدعوات الطيبات

الدعوات الطيبات بالصلاح والحفظ من كيد شياطين الإنس والجن والتوفيق وزيادة الرزق في أوقات الإجابة فإن الله تعالى يجيب من دعاه بصدق، والصالحون من الأبناء يجدون أثر دعوات آبائهم وأمهاتهم في كل خطوة يخطونها حتى بعد وفاة الوالدين بسنين.

5. التربية على الإيمان

أعظم ما يتركه الإنسان لولده أن يغرس الإيمان في قلوبهم ويطمأن عليه كما يطمأن على صحتهم البدنية والعقلية والنفسية.

فإن استقرار الإيمان في قلوبهم يحميهم من كثير من الشرور ويجعلهم أقوى على مواجهة صعوبات الحياة، حتى إذا ما كانوا وحدهم تحصنوا بحصون الإيمان وتوكلوا على ربهم وخاضوا معارك الحياة بقوة وثبات لا يحزنهم أنهم وحدهم لإنهم يشعرون أن الله تعالى معهم، لا يضرهم ألا يروا فرجا في الأفق فربهم يقول:

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5-6].

وهذا الإيمان يغرس بصبر وحكمة مع مواقف الحياة:

  • عند النعمة: يُشعر الوالدان أبناءهما أنها من الله وأنه سبحانه الذي وفقهم ورزقهم، لذا فعليهم أن يشكروه.
  • عند الابتلاء: وإذا أخذ سبحانه وتعالى منهم شيء فإنه مالك الملك يعطي بحكمة ويأخذ بحكمة، وللمالك أن يتصرف في ملكه بما يشاء.

يكبر الأولاد وتزداد معرفتهم بالله تعالى وإيمانهم به سبحانه وبذا ينفعون أنفسهم ويدعون لآبائهم.

6. المال الحلال

يدرك الإنسان أهمية المال لتحقيق ما يحلم به والاستغناء عن ذل الطلب من الناس، وبعض الناس يهلكون أنفسهم في طلب المال بالعمل الذي يرهق أبدانهم ويتلف أعصابهم ويصيبهم بالعجز أو الشيخوخة المبكرة ويحرمهم من قضاء لحظات سعيدة مع الأسرة والأحباب.

ومع كون المال عصب الحياة فليس كل المال يمكن أن ينفع أصحابه؛ المال الحلال وحده هو سبب الغنى والبركة. والمسلم وهو يسعى لتحقيق الغنى لنفسه ولأولاده يتذكر أنه سيسأل عنه وسيقف وحيدا بين يدي ربه سبحانه وتعالى، لن يقف معه ابنه أو ابنته أو زوجته ليجيبوا عن السؤال الصعب: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟؟ لذا عليه أن يستحضر هذا السؤال باستمرار.

7. المحبة والألفة بين الأبناء

دون أن تكون هناك محبة بين الأبناء والبنات لا تنفعهم الثروة ولا الغنى، لأنهم سيتقاتلون عليها وسيحقد الأخ على أخيه كلما رأى نعمة عنده.

بينما المحبة تجعل منهم يدا واحدة تبني وتعين وترشد إلى مواضع الخير والرزق، وكم رأينا من شركات عائلية بدأت صغيرة ثم نمت بالمحبة والإخلاص وزاد خيرها وعم الكبير والصغير.

لنحرص على أن نترك لأبنائنا إرثا من الخير ينفعهم في حياتهم وينفعنا بعد أن نفارقهم.