قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة : 128).  نبي الرحمة الرسول العربي القرشي معروف النسب، لم يطعن أحد في صحة نسبه وكرم محتده، فمخاطبة الله تعالى للعرب بأن الرسول من أنفسهم تذكير لهم بأنه لهم ناصح ومحب، وعليهم مشفق، وعلى هدايتهم حريص، وأنه بهم رفيق وعليهم مشفق, يشق عليه ضلالهم ويفرح لهدايتهم، ووردت أحاديث كثيرة تبين بعض مظاهر الرحمة المهداة، والمتمثلة بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك وفاته صلى الله عليه وسلم قبل أمته ليكون لها سلفا ففي الحديث: “إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها، ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره” (صحيح مسلم).

ومن وقائع السيرة النبوية أن ثقيفا آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام حتى رشقوه بالحجارة وأدموا قدميه، وخيَّره الله أن يعاقبهم فيطبق عليهم الجبال، فقال عليه الصلاة والسلام: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً” (رواه البخاري ومسلم).

وكان عليه الصلاة والسلام أَمنْاً لأمته في حياته، كما أن الاستغفار أمن لها بعد وفاته قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال : 33) وهو في حياته ومماته رحمة وخير للمؤمنين. قال عليه الصلاة والسلام: “حياتي خير لكم: تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم” (رواه البزار) .

هو رحمة عامة كما في القرآن {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء : 107) كما أنه نور يضيء طريق الهداية للناس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب : 45 – 46).

وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه: “لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا” (مسند أحمد).

وقد منح الله تعالى الأنبياء دعوة مستجابة، فتعجلوها ودعوا بها، أما الرسول الكريم فقد ادخرها لأمته كما في الحديث: “لكل نبي دعوة مستجابة فعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة” (رواه البخاري ومسلم).

وتتجلَّى في رسالة النبي الكريم كل معاني الرحمة، فقد رفع الله عن أمته الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فيسر لها الدين ورفع عنها الحرج {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج :78 ).

وقد امتلأت نفس الرسول الكريم بالرحمة، وأوصى أتباعه بأن يكونوا رحماء كما وصفهم القرآن { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (الفتح : 29).

قال أنس بن مالك – رضي الله عنه -: “ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم” (صحيح مسلم).

وقال زيد بن حارثة: “أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أن ابناً لي قبض فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء” (رواه البخاري ومسلم).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه: ” … ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا” (صحيح مسلم). وقد شملت رحمته ووصاته بالرحمة الحيوان فضلا عن الإنسان فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمررنا بقرية نمل قد أحرقت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله عز وجل” (مسند أحمد وسنن أبوداود).

عن سعيد بن جبير قال: “مرَّ ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فقال ابن عمر: “من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا” (صحيح مسلم).

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “والشاة إن رحمتها رحمك الله” (مسند أحمد).

وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته” (صحيح مسلم).

وكان الرسول الرحيم يضرب لأصحابه الأمثال، ويحكي لهم من أخبار الماضين ما يرسم في نفوسهم الرحمة، قال لهم مرة: “بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر” (رواه البخاري ومسلم).

وهذا غيض من فيض، وكله يشهد لهذا النبي الكريم بأنه “رحمة مهداة” وأنه غرس معاني الرحمة في أصحابه، وأوصاهم بها وملأ تعاليمه بذكرها، وشمل بها كل ذي روح من إنسان وحيوان، وسبق بذلك كل لوائح حقوق الإنسان الحديثة، وكل جمعيات البر والرفق بالحيوان مما يحسبه الناس من خصائص الحضارة الغربية وعطائها.فلا عجب أن كانت بعثته رحمة للعالمين، وأن يعبر عن جوهر رسالته بقوله عليه الصلاة والسلام: “يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة” (الحاكم: المستدرك  وصححه وأقره الذهبي).

وسوف تظل تعاليمه تمسح جراحات المعذبين وتلمس حنايا المستضعفين وتلين قلوب المتجبرين وتملأ الحياة بالحب والدفء والرحمة.