هل يقضي الوالدين – وخصوصاً الأمهات- وقتاً كافياً مع أبنائهم ؟
على الرغم من أن الوالدين الأميركيين يعتبرون أنفسهم من أكثر الآباء والأمهات في العالم الذين يقضون أوقات كافية مع أطفالهم، إلا أن الكثير منهم يشعر بالذنب معتقداً أن هذه الأوقات غير كافية وذلك بسبب انتشار معتقدات ثقافية على نطاق واسع في المجتمع الأميركي مفادها أن قضاء الأهل – خصوصاً الأمهات – وقتاً أطول مع أطفالهم هو المفتاح الذي يضمن مستقبلاً مشرقاً لأطفالهم.
أهمية المستوى التعليمي والاقتصادي
في دراسة أميركية جديدة تناولت بعض المعتقدات الثقافية والاجتماعية الأميركية الخاصة بأهمية الوقت في تربية الأبناء، خَلص الباحثون إلى أن قضاء وقتاً أطول مع الأطفال ليس هو الحلّ الأمثل على الإطلاق. حيث أظهرت الوقائع البحثية أن الكمّ الهائل من الوقت الذي يقضيه الآباء مع أطفالهم (3 أعوام-11 عاماً) ليس له أي علاقة بكيفية تشكّل الأبناء وتربيتهم، وأن هذا الوقت له تأثير ضئيل على المراهقين. وذلك وقفاً لدراسة أكاديمية جديدة نُشرت في دورية “الزواج والأسرة” عدد أبريل 2015 وجاءت بمثابة اكتشاف أكاديمي جديد على مستوى سلوك الأطفال والرفاهية التربوية.
في هذه الدراسة تقول ميليسا ميلكي -المتخصصة في علم الاجتماع، جامعة تورنتو، وإحدى المشاركين في إعداد هذه الدراسة أنه : ” يمكن أن نعرض لكم نحو 20 من الرسوم البيانية – منها 19 رسماً بيانياً – من شأنه أن يُظهر أن لا علاقة بين مقدار وكمّ الوقت الذي يقضيه الوالدين مع أطفالهم وبين النتائج المؤثرة لهذا الوقت على تربية الأبناء.
بل على العكس وجدت الدراسة أن قضاء الأم ساعة مع أطفالها وهي تشعر بالتعب والنعس – لأنها فقط قد تشعر بالذنب- قد يكون له نتائج سيئة على الأطفال. وتهدف الدراسة إلى التوضيح للأميركيين أن نوعية وكفاءة الوقت الذي يقضيه الأهل مع أبنائهم أولى من الكمية “.
ما قالته ميليسا ميلكي، يؤكده المؤلف المشارك في وضع هذه الدراسة – كي نوماجوشي- والمتخصص أيضاً في علم الاجتماع في جامعة (بولينج جرين)، الذي يرى أن : ” إجهاد الأمهات لأنفسهم وتعرّضهم لضغوط العمل ومحاولاتهم إيجاد وقت مُخصص لأطفالهم يمكن أن يؤثر سلباً على نفسية الأطفال. وهذا لا يعني أن تمضية وقت مع الأبناء غير ضروري، ولكن الكثير من الدراسات أظهرت ضرورة ارتباط الوقت بالجودة، حيث أن مشاركة الأهل قراءة القصص والكتب مع أطفالهم، وتقاسم وجبات الطعام، والحديث مع الأبناء، يعود بنتائج إيجابية عليهم، وبالتالي ينطبق الشعور نفسه على الأهل الذين سيشعرون بالتقارب مع أبنائهم وبالدفء المعنوي. فالفكرة أن كمية الوقت غير مهمة مقارنة بطبيعة هذا الوقت الأكثر أهمية “.
من جهته، يقول ماثيو بيل المتخصص في الطب النفسي للمراهقين والأطفال في المركز الطبي بجامعة جورج تاون:” ليس هناك حصّة محددة من الوقت يمكن أن نُشببها بقطعة حلوة كافية للأطفال، لكن الأبحاث أظهرت أن السلوك الصارم من قبل الآباء مع الأبناء في البيئة الحضرية يرتبط بسلوك أقلّ نجاحاً من سلوك مراهقين آخرين في بيئات أخرى”.
في هذا السياق أيضاً، تقول آيمي هيسين – المتخصصة في علم الاجتماع في كلية كوينز- أن الآباء الذين يقضون معظم وقتهم مع أطفالهم دون سنّ الـ6 سنوات وهم يشاهدون التلفاز أو يقومون بأي شيء من هذا القبيل، يتركون تأثيراً سلبياً على أطفالهم، فالأكاديمية الأميركية لطبّ الأطفال تؤكد أن الأطفال يحتاجون إلى وقت غير منظم لأنفسهم دون إشراك الآباء والأمهات في نشاطاتهم وذلك لتنمية مهاراتهم الاجتماعية والمعرفية بعيداً عن تأثير الأهل بشكل سلبي.
وتفيد هيسين أن كمّ الوقت الذي تقضيه الأمهات والآباء في رعاية الأطفال قد تزايد بشكل ملفت منذ عام 1970 في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تضاعف هذا الوقت ثلاث مرات تقريبا من 2.6 ساعات في الأسبوع عام 1956 إلى نحو 7.2 ساعة تقريبا عام 2010 فيما يخص علاقة الآباء بأبنائهم. في حين تضاعف عدد الساعات التي تقضيها الأمهات يومياً مع الأبناء من 10.5 ساعات أسبوعياً عام 1956 إلى 13.2 ساعة أسبوعياً عام 2010.
لكن نسبة الأمهات للأطفال ما دون 18 عاماً والعاملات ارتفعت من 41% في عام 1956 إلى 71% في عام 2014. واللافت أن كمّ الوقت التي تقضيه الأمهات العاملات مع أطفالهن يفوق كمّ الوقت التي قضينهنّ هذه الأمهات مع أمهاتهنّ في أوائل الـ1970.
وفي الواقع، وجدت هذه الدراسة التي أشرفت عليها ميليسا ميلكي -بالإضافة إلى دراسات أخرى- أن نجاح الطفل في المستقبل لا يعتمد على كمية الوقت كما أنه لا يعتمد بشكل كامل على نوعية الوقت الذي نقضيه مع أطفالنا، إذ تشير ميليسا في سياق دراستها إلى أنه إذا ما أردنا أن نفكّر في الأمر على نطاق أوسع، فإن المستوى التعليمي للأم وقوّة الدخل، لها تأثير كبير أيضاً على تربية الطفل، فالمستوى التعليمي للأم وقوّة الدخل يدعم صحتها العقلية والنفسية ويعزز من مكانتها الاجتماعية والاقتصادية ما ينعكس إيجاباً على الأبناء.
ويبقى السؤال: هل هذا الكمّ من الوقت يُحدث فعلاً فرقاً مع أطفالنا اليوم؟ الإجابة ستُثير دهشتكم.
الأمومة.. والشعور بالذنب
لقد شملت هذه الورقة البحثية مجموعة من الأمهات كعيّنة تمثيلية على المستوى الوطني، وأطفال تتراوح أعمارهم بين 3-11 عاماً في عام 1997 والعينة نفسها عام 2002 في فئة عمرية تتراوح بين 12-17 عاماً. وقد نَظر الباحثون في الوقت الذي كان يقضيه الآباء والأمهات مع أطفالهم وفي طبيعة النشاط الفعلي والتفاعل الحقيقي بين الأهل وأبنائهم.
ولقد ركّزت الباحثة ميلكي في دراستها بشكل خاص على الكمّ من الوقت الذي تقضيه الأمهات مع أطفالها بغض النظر عن وجود الآباء، وأرادت في ذلك اختبار الاعتقاد السائد بأن هناك شيئاً خاصاً بين الأمهات وأطفالهنّ، وتوقعت ميلكي في اختبارها أن قضاء الأم وقتاً أطول مع أطفالها من شأنه أن يكون مهماً جداً في حياة الأطفال، لكنها أُصيبت بالصدمة عندما وجدت أن هذا الاعتقاد خاطئ، وفوجئت بأن ساعات عمل الأمهات والوقت الذي تقضيه هؤلاء مع أبنائهن ليس مهماً كثيراً في التأثير على نمط حياة الأبناء. إذ أن أكثر المراهقين الذين يقضون وقتاً مع أمهاتهم العاملات قد يميلون إلى الانحراف في سن المراهقة في حين أن أكثر الأطفال الذين يقضون وقتاً أطول مع الأُسرة – كلا الوالدين- هم أقلّ احتمالاً من الانحراف، وتعاطي المخدرات، والكحول، أو الانخراط في سلوكيات غير أخلاقية، كما أنهم يحققون درجات عالية في مادة الرياضيات.
ولقد وجدت الدراسة أن 6 ساعات أسبوعياً مع الأسرة تترك آثاراً إيجابية على المراهقين أكثر مما تتركه ساعات أطول بين الأم وطفلها فقط، ما يخفف الشعور بالذنب لدى الأم العاملة التي تسعى جاهدة لإيجاد وقتاً أطول تُجالس فيها أبنائها.
وفي هذا يعلّق – كي نوماجوشي- قائلاً أن الأمهات العاملات ذوي الدخل المتدني يشعرون بعقدة الذنب تجاه أطفالهنّ لأنهن لا يُقضين الوقت الكافي مع الأبناء، كما أنهم لا يستطيعون تأمين مستقبل كريم لهم، وبالتالي فإن هذا الأمر يولد نتائج سلبية على الأطفال ويتسبب بمشاكل سلوكية وعاطفية للأبناء، كلّ ذلك بسبب جهد الأمهات العاملات في سبيل “الأمومة المكثّفة” التي أضحت معتقداً شائعاً في المجتمع الأميركي وفكرة مقدّسة تحوّلت مع الوقت إلى جزء من الضغوط الثقافية والتربوية التي تحرم الأهل النوم والراحة من أجل إيجاد مزيد من الوقت للاهتمام بالأطفال.
ويُتابع – نوماجوشي- ما لا يدركه الأهل من ذوي الطبقة الوسطى أن التنافس على فرص العمل هو المفتاح لنجاح الطفل في سن المراهقة وهو الحلّ للتخفيف من سلبيات الضغوطات المادية وأن التنافس على الأمومة ورفع سقف التوقعات ليس هو الحلّ.
في هذا الإطار ايضاً، تقول نيكول كومبر- الأستاذة في جامعة ميرلاند قسم إدارة الأعمال وهي أم لطفلين- أنها تشعر بالضغط من ناحية تربية الأبناء أكثر من زوجها، وتقول: ” الكثير من الناس يسألونني عن كيفية تحقيق التوازن بين تربية أبنائي وبين عملي لكن لا أحد يسأل زوجي هذا السؤال ..فأحياناً كثيرة أضع توقعات أعلى من قدرتي على تحقيقها. فأنا أحاول أن أكون أماً مثالية ولكنني بالتأكيد هذا الصوت المثالي ليس لطيفاً للغاية”.
وتعقيباً على كلامها، يقول زوجها – بوب- : “أرغبُ فعلاً بقضاء مزيد من الوقت مع أطفالي لا سيما عند الصباح حين تدبّ الفوضى في المنزل قبل الخروج إلى العمل لكني لا أشعر بضغوط مكثفة لقضاء المزيد من الوقت مع الأطفال ولا أفكر في تلبية متطلبات الأُبوة بسقف عالٍ على غرار والدتهم”.
إحدى المُشاركات في الدراسة – جنيفر سينيور- تقول:” أن الشعور بالذنب لدى الأمهات العاملات هو موضوع محط بحث في المجتمع الأميركي منذ وقت طويل ، حيث أجرى مسح اجتماعي عام لآراء الأميركيين حول هذا الموضوع عام 1972 وكان يتمحور حول مستقبل الأطفال من أمهات عاملات ومستقبل الأطفال من أمهات غير عاملات.
وقد تم استطلاع آراء المجتمع آنذاك عن دور الأمهات دون دور الآباء وجاءت النتائج مختلطة “. وخلصت الدراسة آنذاك إلى أن الشعور بالذنب يعتمد على الخلفية الاجتماعية والثقافية التي تحدرّت منها الأم، فإذا كانت تلك الخلفية ترى أن عمل الأمهات سلبي فإن الشعور بالذنب يكون أكبر أما إذا كانت الأم من بيئة تعتبر أن عمل المرأة واجب وأنه يدعم دورها كأم، فالشعور هنا بالذنب يكون اقلّ.
مفاعيل دراسة 1972 ما زالت مستمرة في المجتمع الأميركي، فالمواطنة الأميركية ماري كوسين، من سياتل، استقالت من وظيفتها عام 2013 بعد ان كانت تعمل فيها بدوام كامل وذلك لمجالسة طفلتيها (4 و7 سنوات) ولأنها شعرت بالذنب عندما اضطرت أن تتركهم مسبقا في دور الرعاية، وكان لديها شعوراً دائماً بالهرع إليهم أكثر من اللزوم، واليوم هي تسعى جاهدة لادخار نفقات المعيشة والعيش على دخل زوجها فقط وتقول في تعليقٍ على الدراسة :” استطيع أن أرى من تجربتي الخاصة كيف أن تمضية الوقت مع اطفالك في مرحلة الطفولة مهمّ جداً قبل مرحلة المراهقة.. فكما تعلمون العلاقة مع الأطفال لا تُبنى فجأة عند المراهقة. بل تتطلب وقتاً طويلاً في وقت مُبكر”.
في الخلاصة، يمكن القول أن نتائج هذه الدراسة البحثية الجديدة قد هزّت التصوّر الذي ساد طويلاً في المجتمع الأميركي والذي كان يعتبر أن عدد الساعات التي يقضيها الأهل مع الأبناء هي الأهم بغض النظر عن طبيعة ذلك الوقت، فبناء العلاقات مع الأبناء، وتعزيز لحظات التواصل معهم لا يرتبط بمقدار الوقت بقدر ما يرتبط بلحظات زمنية تفاعلية. وفي هذا نصح الباحثون الأهل بألا يقلقوا كثيراً على مشكلة مقدار الوقت بقدر ما يتطلب قلقهم البحث في كفاءة وطبيعة الوقت الذي يمضونه مع أبنائهم.