بعد هذه الرحلة الملخَّصة الممتعة مع القضاء والقدر في طريق شيِّق شائك، تمتعنا بوضوحه، وأزلنا شوكه، ووضّحنا ما خفي على العامة، وما يبحث عنه الخاصة، قطعناه على بصيرة وبصر، وفكر، وتعقّل، ونظر؛ فربَّ سائل يقول: ألا تلخّص لنا فتخبرنا: هل الإنسان مُسَيَّر أم مُخيَّر؟ أم ماذا؟

الجواب أنَّ من الخطأ أن نقول: إنه مخيَّر في كل شيء كما أن من الخطأ أن نقولَ: إنه مُسيَّر في كل شيء، ولعلَّ الوسطيةَ في الجواب هي الصواب.

إنه مسيَّرٌ في أمور، مُخَيَّر في أمور أخرى.

والآية القرآنية في سورة الرعد [15]: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15]

تفتح أمامنا آفاقاً لهذا الجواب، بإشارة النص، فالإنسانُ مُسَيَّرٌ فيما:

1-     كان فيه، كلون بشرته، ودقّات قلبه، وطول قامته، وعمل أجهزته في جسمه كالهضم و… ولو كان نائماً رحمةً به، ولطفاً.

2-     أو عليه ككونه وَلَد فلان وفلانة، ولد في بلدة (كذا)، وسيموت في بلدة (كذا) يوم (كذا) بعد عمر مقداره (كذا)، لا يملك الإنسانُ أن يغيّر، أو يبدّل، وليس وراء هذا التسيير مسؤولية؛ لأنها أمورٌ فُرضَتْ عليه لحكمةٍ، ورحمةٍ، وليس للإنسان في هذا ثوابٌ، ولا عليه عقاب، إنما يُثابُ إذا شكر الله وحمده على نعمه، ويُعاقب إذا أنكر فضل الله عليه.

والإنسان مُخيَّر فيما صَدَر منه، وعنه، من قول، أو عمل، عن إرادة واختيار – وهو راضٍ بذلك – وقد رتَّب اللهُ تعالى على ذلك مسؤولية، فيثاب صاحبُها إن أحسن، ويُعاقب إن أساء؛ لأن مفتاحَها بيد الإنسان، فإن نازعتْهُ عينُه للنظر إلى حرام، فهو قادر أن يغضَّ طَرْفَهُ وينصرف.

وإن نازعه لسانُه للتكلم فيما يحرم، فهو قادر أن يضمَّ شفتيه، ويغلق فمه، وينصرف.

وقسْ على ذلك اليد، والرجل، وبقية الأعضاء والحواس، فهو قادرٌ أن يكفّها عن كلِّ معصية وحرام، وأن يُلْزِمَ نفسَه الطاعةَ والحلال، ما دام حرَّاً، مختاراً، راضياً، غَيَر مُكْرَه.

قال سيدنا علي كرم الله وجهه، ورضي عنه: “إنَّ الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلَّف تيسيراً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يُرْسِل الرسلَ إلى خلقه عَبَثاً، ولم يخلق السموات والأرضَ وما بينهما باطلاً، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار”.

فإن أكره الإنسان على ما لا يجوزُ إكراهاً ملجئاً رخّص له – ليحمي نفسه – أن يفعلَ ما أُكْرِهَ عليه، دون أن يوقع ضرراً بأحد، وعليه أن يختصرَ ذلك إلى أقلِّ ما يستطيعُ، فالضرورةُ حين تبيحُ المحظور تقدّر بقدرها زماناً ومكاناً.

فمن نفد زادُه في صحراء قاحلة، وأشرف على الموت، ولم يجد إلا لحم ميتة، أو خنْزير، فله أن يأكل لقيمات يذهبن عنه خطر الموت، ويسأل الله أن يجدَ له فرجاً، قال تعالى في سورة البقرة [173]: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وقال في سورة الطلاق [2-3]: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.

فإن أُكره على الشرك، والقتل، أو الزنا، فالراجحُ والأولى أن يرفضَ، ويعفَّ، ويمتنع، فإن قُتِل مات شهيداً، وذلك حَفاظاً على العقيدة الصحيحة، والأرواح، والأعراض.

وفي سورة الفرقان [68] وصفٌ لعباد الرحمن، منه:

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}

وياسر وزوجته سُمَيَّه أُكْرِها على الكفر، فامتنعا، فَقُتِلا تعذيباً، فكانا أول شهيدين في الإسلام – رضي الله عنهما – وكان  يمرُّ بهما، وهما يعذبان في مكة قبل الهجرة، ولا يملك إنقاذهما، فتدمع عيناه، ويقول: “صبراً آل ياسر فإن موعدَكم الجنة”(1).

ولقد صعب الصبرُ على ولديهما “عمار” فنطق بكلمةٍ من كلمات الكفر لينقذ نفسه من العذاب والموت، وجاء إلى النبي ص يبكي ويشتكي، فأنزل الله تعالى:

{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]

وكان عمار مطمئن القلب بالإيمان، فعرف أن الله تعالى أنزل في عذره قرآناً فيه رخصة، فقرّ بذلك عيناً.

وفي ذلك رحمةٌ من الله، ويسر، وعدل، واللهُ عليمٌ حكيم، وتحقيقاً لهذا العدل، واليسر، واللطف الإلهي، ورد الحديث الشريف: «لا طلاقَ في إغلاق»(2). ولعلَّ من الراجح أن يُحْمَلَ على الشمول في معناه، فلا يقع طلاقُ من أُغْلِقَ عليه في إرادته، كأن أُكْرِه على الطَّلاق إكراهاً مُلْجئاً، كما لا يقع طلاق مَن أغلق عليه في عقله؛ كأن كان مجنوناً، أو في حال الإغماء، أو نائماً، أو غضبان غضباً شديداً، لا يعي معه ما قال، أو فعل.

ويُؤيِّد ذلك أيضاً حديث: رُفع عن أمتي الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه»(3). والعدالةُ تتمُّ إذا رفع الإثم والحكم معاً، إلا ما كان من حقوق الناس، فلا بُدَّ من أدائها، كأن أخطأ فأتلف مالاً لغيره، فلا بُدَّ أن يضمنَ ثمن أو مثل ما أتلف، ولكن دون عقاب: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]

واختلفوا في طلاق السكران؛ ولعلَّ الأرجحَ أنه يقعُ طلاقُه إن تعدَّى بسكره، وكان ممَّن أدمن على السكر، واعتاد عليه.

وحياةُ المرأة مع زوج سكير جحيمٌ لا يُطاق.

وأسرةٌ سيِّدها سكِّير أسرةٌ مُشَتَّتَةٌ، بائسة، يائسة، لا سرور فيها ولا استقرار، ولا أمن ولا سعادة.

ولا يقع إن لم يكن متعدِّياً بسكره، كأن كان مُكرهاً عليه إكراهاً ملجئاً، فطلَّق مستفيداً من الرخصة ليحمي نفسه من الهلاك، فيلغى الطلاق، وتُحْفَظُ الأسرةُ من التشتت، والضياع.

ومما يتفق مع هذه العدالة الإلهية أيضاً وجوبُ العدل بين الزوجات في الأمور المادية؛ التي هي بمقدور الزوج، وفي دائرة طاقاته، كالعدل في المبيت، والنفقة من كساء، وغذاء، ودواء، ومسكن و..

وعدم وجوب العدل في القلب: (المحبة والميل القلبي)؛ لأن الزوجَ لا يملكه، وقد فُطِرَت النفوسُ على حبّ وتفضيل الأكمل، والأجمل، والأنظف، والأبّر، والأفضل، طاعة وأنساً وخدمةً وإخلاصاً، وفي يقول : «اللهم هذا قسْمي – بسكون السين – فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك»(4).

والآيات في سورة النساء ذكرتْ ذلك بوضوح، فقد منعت التعدُّد إن خاف الزوجُ أن لا يعدل بين زوجاته في الأمور المادية، وهي التي يملكُ العدلَ فيها:

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]

أي: فتزوَّجوا واحدةً لا أكثر. وعلَّل ذلك في آخر الآية بأن هذا النهي عن التعدُّد لمنع الظلم:

{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]

أي: لئلا تجورُوا وتظلموا.

هذا إن خاف أن لا يعدل، فكيف إذا عزم على عَدَم العدلِ بينهن، فتحريم التعدُّد من باب أولى.

أما العدلُ القلبي، فالزوج لا يستطيعُه كما رأيت، فجاز له التعدُّدَ شريطةَ أن يُحسِنَ التصرُّفَ، ولا ينصرف إلى من يحبُّ انصرافاً كلياً، فيظلم ضرَّتها أو ضرَّاتها، ويتركهن كالمعلقات، لا مُتزوِّجات ولا مُطلَّقات، ذلكَ أنَّ الميلَ القلبي الكامل لإحداهن قد يُؤدِّي إلى ظلم الأخرى أو الأخريات، ظلماً قلبياً ومادياً، فيهجرهن، ولا يبيت عندهم، وينقص حقّهن في النفقة… وقد تدعوه هي لذلك ليطلِّق الأخريات، وينفرد بها ولها.

ولذا قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}

أي: في القلب.

{وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 129]

فإذا أحسن الزوجُ التصرفَ، وهو يميل قَلبياً لإحداهن، ولم يظلم الأخرى أو الأخريات في شيء، وأخفى شعوره أمامهنَّ نحو من يُفضّلها قلبياً، جاز التعدد، وسار المركب سليماً آمناً.

وقُلْ مثل ذلك في معاملة الوالدين لأولادهما.

فآيتا النساء في التعدّد والأحاديث التي وردت قبلهما: “لا طلاق في إغلاق”. “رُفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما اسْتُكْرِهُوا عليه”. “اللهم هذا قسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك”.

كلُّ ذلك يفسِّر، ويُؤكِّد حقيقةَ، وعدالةَ، ورحمةَ، ويُسْرَ الشرع الإلهي، وهو ما وضَّحناه من قبل، حيث بيّنا:

1-     متى يكون الإنسانُ مُسَيَّراً.

2-     ومتى يكون الإنسانُ مُخَيَّراً.

ممَّل يُؤَكِّدُ أنَّ القرآنَ الكريمَ والسُّنَّةَ الصَّحيحة يسيران معاً على خط مستقيم واحد؛ ليؤكِّدا ويوضِّحا عدالةَ الله تعالى في خَلْقه، ومع عباده، ومسؤولية الإنسان عن قوله، وعمله، في ساحة الرحمة، والإنصاف، واليُسْر.

وقد ظهر لك – أخي القارئ – أنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ كُلّه عدل، ورحمة، وتيسير، وتحقيق لمصالح العباد، ودرء للمفاسد عنهم. فمن فهم عنه غير ذلك، أو جنح عن ذلك، فقد ضلَّ سواءَ السَّبيل:

{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 88]