لفعل الخيرات فوائد عظيمة، فهو يخفف التوتر، ويحقق السعادة، ويقلل الألم، ويعزز المناعة، ويُكسب الشخص الاحترام لذاته، كما أن الاستدامة على فعل الخير والتعامل بلطف مع الناس، يعزز قدرات الشخص في التأقلم في الابتعاد عن التوتر، ويقلل ضغوطه النفسية، ويحسن صموده أمام متغيرات الحياة.

هرمونات للخير

فعل الخير ذو طاقة إيجابية، تُحسن اتصال الإنسان بمن حوله، وتخلق فيه إحساسا بالآخرين وما يعانونه من ألم، وتدفعه لإزالة تلك الأوجاع، فالخير يخرج الإنسان من ذاته الضيقة المثقلة بهمومها الصغيرة، إلى أفق آخر ينظر فيه إلى آلام الناس ومصائبهم، وهو ما يخفف ضغوطه الداخلية، فإذا تحرك لإزالتها، فإنه ينتقل إلى فعل ينشغل فيه، ولا يترك عقله منصبا في النظر لذاته. كما أنه يُطلق هرمونات تؤثر في فاعل الخير نفسه، فتحسن مزاجه، وتخفض مستويات التوتر، وهو ما يؤكده البروفيسور “جيفري بور” Jeffrey Burr ، أستاذ علم الشيخوخة، بقوله: “تُظهر مجموعة متزايدة من الأبحاث العلمية أن مساعدة الآخرين، بما في ذلك الانخراط في أنشطة التطوع الرسمية، ترتبط بتحقيق نتائج صحية أفضل في الحياة”.

وفي دراسة أجريت على مايقرب من 1300 شخص تجاوز عمرهم الخمسين عاما، وجدت أن أولئك الذين لديهم هدف كانوا أكثر تفاؤلا وأقل شعورا بالوحدة والاكتئاب، وفي دراسة أخرى نشرت عام 2019 أشارت أن شعور التعاطف واللطف مع الآخرين، من مسببات إبطاء الشيخوخة من الناحية البيولوجية، وأرجعت الدراسة السبب إلى أن أحد أجزاء الحامض النووي يسمى ” التيلوميرات” Telomere  يلعب دورا في نمو الخلايا، ويؤثر شعور الرحمة واللطف على تلك الأجزاء إيجابيا، وتحدث علماء آخرون أنه مع فعل الخير، يُطلق هرمون آخر هو “الإندورفين” Endorphin، المُسكن للألم في الجسم، والذي يؤثر على دماغ الإنسان، بطريقة تشبه العقاقير الطبية.

وأكد العلماء أن فعل الخيرات والتراحم والتعاطف، ذات تأثيرات إيجابية على مرضى السكر، وأرجعوا السبب، إلى انخفاض التوتر، وما يفرزه من هرمونات في الدم، لتحفيز الجهاز العصبي، مما ينعكس إيحابيا على مستوى السكر، كما أجُريت دراسات على بعض مرضى السرطان، وخلصت إلى وجود تأثيرات إيجابية لفعل الخير على المرضى، فتقوية روابط هؤلاء المرضى من الناحية الاجتماعية، تمنحهم حالة من الرضا والسعادة تنعكس إيجابيا في رفع مناعتهم، وقدرتهم على مواجهة السرطان، وتقليل آلامه.

وأكد أطباء نفسيون أن كونك طيبا وخيرا، هو أمر مفيد للجسم والعقل؛ بل ذهبوا أبعد من ذلك، بتأكيدهم أن مشاهدة الشخص للأعمال الطيبة لها تأثيرات جيدة على الصحة، لأنها تُقوي القلب، وأرجعوا السبب إلى “الأوكسيتوسين” Oxytocin أو هرمون الحب، الذي يخفض ضغط الدم ويساهم في صحة القلب، كما أن فعل الخير يثير ما يسمى “نشوة المساعدة” التي تحقق الرضا والسعادة، كذلك يحفز فعل الخير والتعاطف إنتاج ” السيروتونين” Serotonin  أو هرمون السعادة، الذي يعزز الهدوء النفسي والاسترخاء، ويقاوم الاكتئاب والقلق والتوتر؛ بل يساهم في إلتئام جروج الجسد، فهو يداوي جروح الجسد والروح، كما أن فعل الخيرات يقلل إفراز “الكورتيزول”  Cortisol أو هرمون التوتر، وهو ما يدفع الإنسان إلى الهدوء والطمأنينة.

عدوى الخير

فعل الخير، كما أكدت دراسات اجتماعية ونفسية أنه “فعل معدي” أي أن هناك من يتأثر بفعل الخيرات، ويقتدي بسلوك الخير في المجتمع، ومن ثم فانتشار الخير في كثير من الأحيان يكون من خلال فعله، فتتسع دوائر الخير، ونشير هنا إلى توجيه القرآن الكريم في فعل الخيرات سرا وعلانية، ففعل الخير في العلانية لا يقل أهمية عن فعله في السر، فالعلانية تخلق حالة تأسي في المجتمع، فتحاصر الأنانية والشح وإيثار النفس، لذلك رفضت تعاليم الإسلام، أن يكون المسلم متبلد الإحساس، قليل النفع، عديم الخير، مع الدوائر المحيطة به، فنجد أن فعل الخير مع الأقارب والجيران أقرب عند الله تعالى، وأكثر ثوابا وأجرا، والمعنى الاجتماعي الكامن وراء ذلك هو الحرص على تحقيق التماسك الاجتماعي، ولا يتأتي ذلك إلا بالإحساس المشترك، لأن فعل الخير يشبه “مادة الأسمنت” يتحقق بها تماسك المجتمعات وصلابتها وصمودها أمام التقلبات.

في عام 2016 ، وجد باحثون أن الجود والكرم تجاه الآخرين أدى إلى خفض ضغط الدم لدى كبار السن، المشاركين في الدراسة، بنفس الدرجة تقريبًا التي يمكن أن يحققها علاج ضغط الدم.

وحسب البرفيسور “ميشيل كارلسون” Michelle Carlson أستاذة الصحة العقلية أن “الحُصين” Hippocampus وهو جزء من الدماغ مسؤول عن التعلم والذاكرة، وهذا الجزء يتقلص مع تقدم الإنسان في العمر، وهو مؤشر على مرض “الزهايمر”، لكن “كارلسون” أكدت أن التطوع يمكن أن يؤخر ذلك التراجع، لأن التطوع يخلق مسارات عصبية جديدة.

وفي دراسة نشرتها مجلة “علم النفس الايجابي” بعنوان “الشفاء من خلال المساعدة” خلصت إلى دور فعل الخير في تحقيق الشفاء والعافية، وقد عرفت الدراسة “التعاطف” أو فعل الخير بأنه “أعمال كبيرة أو صغيرة تفيد الآخرين أو تجعل الآخرين سعداء، وعادة ما يتحمل الشخص تكلفة ذلك من حيث الوقت أو الموارد”، وأشارت الدراسة أن كون الإنسان طيبا وفاعلا للخير يساعد كلا من المانح والمتلقي، لأن ذلك يُنتج مواد كيميائية جيدة مثل الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين.

وهذا ما أكده كتاب “خمسة تأثيرات جانبية للرفق” The Five Side Effects of Kindness  لـ”ديفيد هاميلتون” David Hamilton  في أن الأدلة العلمية أثبتت أن اللطف يغير الدماغ، ويؤثر على القلب والجهاز المناعي، وقد يكون ترياقًا للاكتئاب، وأننا كبشر مؤهلون وراثيا لنكون طيبين، وأن الرفق وفعل الخير اليومي له تاثيرات في جميع أنحاء أنظمتنا العصبية.

وفي دراسة قامت بها جامعة “أوهايو” الأمريكية تم تشجع الذين يعانون من الاكتئاب والقلق للإنخراط في أعمال الخير والأنشطة الاجتماعية، وحققت تلك المشاركة نتائح إيجابية، لذا اعتبروا أن فعل الخير قد يكون أكثر فعالية من تقنيات العلاج السلوكي السائدة، أما الذين يعانون الاكتئاب، فإن فعل الخير صرفهم عن التفكير في ذواتهم، وصرف انتباههم عما يعانونه من القلق والتوتر، وهو ما ساهم في تحسين صحيتهم النفسية والبدنية.

ومن الكتب الطريفة في هذا الشأن كتاب “تأثير الأرانب” The Rabbit Effect للبرفيسور ” كيلي هاردينج” Kelli Harding

وهي طبيبة وباحثة أمريكية بدأت تجارب على الأرانب عام 1978 للبحث عن العلاقة بين ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم وصحة القلب، لكنها لاحظ أن الأرانب التي كانت تعاملها بلطف وعطف، كانت ذات صحة جيدة، وانطلقت ” هاردينج” من تلك الملاحظة للبحث عن التأثيرات الفيسولوجية والصحية لفعل الخير والعطف، وتقول ” كانت الأرانب مجرد بداية لقصة أكبر بكثير” ففعل الخير واللطف والعطف يجعل الإنسان أكثر أمنا وسعادة، وتلك من العوامل التي تبدو خفية لتحقيق الصحة، وربما هذا ما يؤكد أن جزءا من علاجات الإنسان القادمة قد تأتي من عالم الاجتماع، وليس من الصيدلية أو عيادة الطبيب.