عظيمة هي تجارب الدول التى استطاعت رغم التحديات والظروف أن تصنع سلما تتسلق به قمم النجاح وتخرج من وسط الركام أكثر قوة وتصميما على تغيير وضعها وبناء ذاتها ، إنها البرازيل أو ما أصبح يعرف ب اليابان الجديدة. البرازيل إنها قوة الإرادة وإرادة القوة التى ترفض الهزيمة والإنسياق خلف الظروف القاسية.

من وسط ركام التخلف و الجهل و قساوة الظروف ، خرجت البرازيل تلك الدولة القابعة في أدغال غاباتالأمازون ، والتى كان سكانها يعيشون حياة بدائية يطبعها الفقر التخلف خرجت لتقدم تجربة فريدة وملهمة لشعوب العالم.

السياق التاريخ للنهضة البرازيلية

هبت ريالح النهضة البرازيلية مع بداية ما عرف ب “Brazil’s Miracle“ أو المعجزة البرازيلية وهو مصطلح أطلق على النجاحات الباهرة التى حققتها البرازيل في مجال التنمية الإقتصادية في الفترة ما بين 1968 – 1973 .  بعد الإنقلاب العسكري 1964 كان لدى النظام الجديد إهتمام كبير بتطوير الإقتصاد والحياة السياسية في البرازيل لأجل ذالك عين المجلس العسكري حكومة تكنوقراط يرأسها الإقتصادي  المخضرم البروفسيرDelfimNetoo رائد النهضة الإقتصادية البرازيلية ووزير المالية آنذاك.

فخلال هذه الفترة الذهبية للإقتصاد البرازيلي حققت نسبة النمو نتائج فاقت توقعات الإقتصاديين وخبراء التنمية ، حيث أقتربت هذا المعدل من 10% ، وقد أنعكست هذه النسبة إيجابا على قطاع الصناعة فشهدت الصادرات البرازيلية إرتفاع كبيرا  بينما أتخذت حكومة التكنوقراط إجاراءات سريعة وفعالة من أجل تطوير وتحسين المنظومة المالية للدولة وجعلها قادرة على إستقبال الإستثمارات و تسهيل العمليات المالية بعدها أصبحت البرازيل إحدى الواجهات المالية والمراكز الإقتصادية ليس فقط في دول أمريكا اللاتينية بل وفي العالم كله.

بفعل هذ النمو السريع والأداء الجيد للإقتصاد البرازيلي كان المجتمع البرازيلي يشهد تطورات جذرية موازية للطفرة الإقتصادية فخلال سنوات قليلة تحولت البرازيل من بلد يعيش 55% من سكانه في المناطق الريفية ذات الظروف المعيشية الصعبة والقاسية إلى بلد يعيش 67% من سكانه في مدن حضارية متطورة ذات بنية تحتية قوية و مزودة بكافة ضروريات الحياة من جامعات وشوارع وجسور ومستشفيات.

سياسة (Focus Strategy)

يقول وزير المالية البرازيلي في عهد النهضة البروفوسير DelfimNetooيجب أن نركز على قطاع صناعي واحد لا يمكن أن نطور جميع القطاعات دفعة واحدة ، لكن القطاعات التي تشكل مصدر قوة وتميز لنا يجب أن نركز عليها ونوليها إهتمامنا بشكل أكبر لبناء قوتنا الإقتصادية.ومن نتائج هذه السياسة  التي أعتمدت من قبل حكومة التكنوقراط ما  يعرف ب Linkage Effect حيث يؤدي تطوير قطاع معين إلى نتائج إيجابية على القطاعات الأخري.مثلا تطوير قطاع الحديد سيؤدي إلي نتائج إيجابية على قطاع صناعة السيارات.

ركزنا كذالك على قطاعات الصناعة الإلكترونية وصناعة السيارات وحققنا نتائج كبيرة ونافسنا الكبار ، وغزت منتجاتنا الأسواق الإقليمية والدولية، وكانت هناك نتائج إيجابية كبيرة على القطاعات الأخرى.

العالم يستثمر في البرازيل

بعدما حققته البرازيل من نمو و تطور إقتصادي في فترة المعجزة الإقتصادية ، بدأ طموح حكام البرازيل يزداد لبناء قوة إقتصادية عالمية وقد غذت هذا الطموح النجاحات الباهرة التى حققها الإقتصاد البرازيلي في تلك الفترة. قدمت حكومة التكنوقراط إطار إستراتيجي جديد شمل تطوير في مجال البنية التحتية وزيادة الإستثمارات في قطاعات النفط والغاز و الحديد الصلب ، وكانت هذه المشاريع تحتاج إلى تمويلات ضخمة وقفت كعقبة لتحقيق الطموح البرازيلي. لم يأخذ التفكير وقتا طويلا من حكومة التكنوقراط لإيجاد شركاء جدد يمكن الإعتماد عليهم في توفير التمويل للخطط الحكومية الجديدة كان ذالك في عام 1974.

في سنة 1974 خرج العالم من أزمة خانقة عرفت :”صدمة النفط الأولى” وبعد هذه الأزمة التى خلقت فاض كبير في حسابات الدول المصدرة للنفط بدأت البنوك العالمية وشركات الإستثمار في البحث عن مكان ملائم لإستثمار الفوائض النفطية خاصة في الدول النامية ، كانت البرازيل الدولة الوحيدة التى حققت معدلات نمو عالية وبالتالي كانت الأجدر بهذه الإستثمارات.

خلال أشهر قليلة كان ممثلي البنوك العالمية، والشركات الإستثمارية  يتقاطرون على ريوبرازيليا و سانباولو من نيويورك ولندن ثم لا حقا من فرانكفورت ، طوكيو ، باريس، تورنتو ، جينيفا ، شيكاغو ولوس أنجولوس.

سنوات الضياع

في سنة 1979 وبدون مقدمات ضربت أزمة نفط جديدة أطنابها في العالم مسببة  صدمة و ذهولا  للعالم ، وكانت تلك بمثابة سنوات الضياع للمارد البرازيلي . فخلال هذه الأزمة تضاعفت أسعار واردات النفط البرازيلية ، وأرتفعت معدلات الفائدة ، و أنخفضت أسعار المواد في السوق العالمية. بينما سجل العجز في الميزان التجاري للبرازيل سنة 1979 ثلاثة أضعاف ما سجله في العام 1978. كانت كارثة حقيقة حلت بالتجربة البرازيلية الصاعدة فأورثتها الكثير من المشاكل كانت في مقدمتها الديون الخارجية التى وصلت أعلى مستوى لها على مستوى العالم.

الفكرة لا تموت (ظهور المنقذ: لولا داسيلفا)

بعد سنوات عجاف عرفها الإقتصاد البرازيلي الجريح ، وبعد أن تقاذفته الأزمات و المشاكل ، وصل إلى سدة الحكم في البرازيل لولا دا سيلفا وهو شاب برازيلي فقير ينحدر من أزقة وشوارع سانباولو ، عاش فترة طويلة من الكفاح في أروقة السياسة ودهاليز النقابات العمالية.

كان حملا ثقيلا ذالك الذي حمل الرئيس الجديد ، فالبرازيل غارقة في الديون حد الإفلاس وشروط صندوق النقد الدولي مجحفة في حق البرازيل من أجل الحصول على قروض جديدة. رضخ دا سيلفا لشروط صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 30 مليار دولار و قام بالإصلاحات الإقتصادية المشترطة من الصندوق.

بعد سنوات من تنفيذ خطته الجديدة كانت كل القرائن والدلائل تشير إلى تدهور جديد في حالة الإقتصاد البرازيلي والوضع يزداد سوءا ، حينها أطل دا سيلفا على شعبه من جديد بحزمة إصلاحات منها خروج البرازيل من عباءة صندوق النقد الدولي وجاء دا سيلفا بإقتراحات جديدة من بينها : تشجيع التصنيع ، زيادة الإنفاق على القطاعات الإقتصادية ، سياسة إحلال الواردات ، فتح علاقات جديدة مع الإتحاد الأوربي، تطوير في قوانين الإستثمار، تشجيع الزراعة ، تشجيع السياحة ….
هكذا أستطاع دا سيلفا أن يعيد للبرازيل مكانتها من جديد فقد حققت سياساته الإصلاحية الجديدة نجاحات أبهرت العالم وأخرجت البرازيل من إحدى أسوء الأزمات التى عرفتها عبر التاريخ ، لقد كان الشعب محبطا لدرجة كبيرة و يشعر بالإنكسار و الهزيمة بسبب ما آلت إليه الظروف في البلد ، لكن تجارب الأمم عظيمة وفكرة البناء والنهوض قد تتعثر ، وتصطدم بالواقع و قد تهتز لكنها أبدا لا تموت…

 في سنة 2010 تربعت البرازيل في المركز السابع عالميا من حيث قوة الإقتصاد محققة نسبة نمو 7.5% ، و اصبحت من ضمن ما يعرف The Acronym BRIC  وهي دول تضم كل من البرازيل ، روسيا ، الصين ، الهند وهي الدول التى حققت معدلات نمو قوية وساهمت في إنتعاش الإقتصاد العالمي.