لماذا يصبح الإنسان عاجزا يائسا تائها فاقدا للأمل من كل شيء حتى من رحمة الله التي لا ييئس منها إلا القانطون. فبعد أن يكون شابا مواظبا في عمله نشيطا فيه، فجأة يصبح شيخا عجوزا في عمر الشباب. وقد ذبلت نضارة وجهه ويئس من الحياة أيما يأس، إلى درجة التفكير بالانتحار أحيانا. والغريب أن هذا النوع من الاشخاص لا يعرف شيئا عن مشكلته ومما يعاني. هل هو الاكتئاب الجسيم الذي يسلب الإيمان؟ أم الجنون؟ أم الشك؟ أم ماذا؟

يشعر الإنسان في بعض الحالات أنه يعيش تيهانا رهيبا وجنونا بانتظار التفاقم، وقد دخل الشك قلبه حتى حول حقيقة الإيمان في نفسه، بعد أن كان مواظبا على أمور دينه. ولعل مثل هذه الحالات التي يعاني منها الشباب خصوصا، هي التي تصيب شبابنا المقيم في البلاد الأوروبية. تجد الشاب من هؤلاء في الثلاثين من عمره، يترك كل شيء خلفه، على أمل أن مشاكله ستحل وسيعيش في راحة ونعيم في هذا البلد الأوروبي. وإذا بالحلم يصبح كابوسا والآمال الوردية تتبخر وتتحول إلى يأس وقنوط والهمة إلى كسل وبلادة.

نفوس ضائعة في بلاد الغرب

من هؤلاء من يقصد هذه البلاد للحصول على عمل كريم أو شهادة عليا، ويجد نفسه فعلا في أحسن المراكز العلمية في البلاد بل وفي العالم في مجال اختصاصه. ولكن.. للأسف يجد نفسيته محطمة ومعنوياته في الحضيض، و يصبح مركزا جل اهتمامه في كيفية الخروج من هذا الوضع النفسي التعيس الذي لا يدري ما سببه.

هذا النوع من المشكلات يشعر صاحبه بضيق خانق في صدره، فتضيق به الدنيا على رحابتها، ويستبد به الهم والغم الذي يسحقه شيئا فشيئا. وفي سبيل البحث عن مخرج للنفق الذي وجد نفسه فيه، يتحول هذا النوع من البشر إلى البحث عن الرذيلة وفي مقدمة ذلك الجري وراء النساء بحجة أنه حاول غير مرة البحث عن بنت الحلال ولكنه لم يوفق. وهذا ينتج لديه ردة فعل حمقاء، ويتذرع مبررا بالقول لو أن الله أراد أن ييسر أمره لاختصر عليه الطريق وجعلنه يعثر على ما يريد حتى يستثمر وقته فيما هو أكثر فائدة، والأخطر من ذلك يقول أن الله عز وجل يريد أن ينتقم منه في الدنيا والآخرة، لذلك سلط عليه هذا الأمر لأنه لا يستحق شيئا!! فيصبح ويمسي مرددا قول الشاعر: كالعيس في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها محمول!!

لكن، الأخطر من هذا كله، هو ألا تكون مشكلته ناتجة عن هذا الأمر وحده، رغم أن الحال قد وصل به إلى أن يعزو كل العذاب النفسي الذي يقارعه إلى الفراغ الوجداني والعزلة العاطفية! ويتساءل: يا ترى ألهذه الغريزة الحيوانية كل هذا التأثير على النفس؟ أم أنه يضخم الأمور ويبالغ كثيرا؟ وإن كان لها كل هذا الزخم (عند بعض الناس على الأقل، الضعفاء التعساء مثله!) فما بوسعهم أن يفعلوا؟.

العزوف عن الحياة

وبسبب هذا الفشل، يقرر العزوف عن الزواج والبقاء أعزبَ، لأنه يخشى أن يكون سبب مشكلته هذه ليس هذا الأمر، وأن تكون حالته قد أصبحت طبعا مترسخا ومرضا مزمنا مستعصيا. وبالتالي لن يستطيع التأقلم مع حياة زوجية طبيعية وسيظلم في هذه الحالة تلك المرأة المسكينة التي لا ذنب لها! ومن هنا يحكم بالفشل المسبق على أي ارتباط، و يرفض فكرة الزواج تماما ويعزف عنها! ويصبح نشاطه معدوما وحماسته للعمل تتراجع، وحالته تتدهور من سيئ إلى أسوأ، ويبدأ من حوله يلاحظون تعكر مزاجه رغم محاولته إخفاء ذلك، ويتذرع بأن هذا مجرد تعب جسدي بسيط سيزول، ولكن في الحقيقة الأمر أخطر من ذلك بكثير.

وهذه الحالة النفسية أخطر ما تؤدي إليه هو ضعف الإيمان، فيبدأ الإنسان في عملية الاستصغار والاستهانة بالكبائر، ويسعى وراءها ثم يلوم الله تعالى على ذلك! فتختلط عليه الأمور ويصبح ليله نهارا طويلا من الأرق والسهر والتفكير العقيم، ونهاره خمول وبلادة وجمود وكسل. وقد قبح منظره وساء خُلقه، وأصبح نزقا، سريع الغضب، حساسا، سيئ الظن بالآخرين، سيئ السلوك والتصرف، بذيء اللسان، كلامه منفر وممل وثقيل ولاذع وجارح.

وما يزيد الطين بلة أنه يلجأ إلى العادة السيئة (السرية) والنهم بشكل غير معقول أو العزوف التام عن الأكل، كملجأ زائف ووسيلة للانتقام من نفسه حتى يضعف جسمه وتخور قواه، ويصير يتحاشى الناس ويهرب من المسؤوليات والاجتماعيات. وإن كان في اجتماع مثلا فإنه يتحاشى الأماكن المتقدمة أو أوساط القاعات؛ لأنه يخشى أن يبدر منه شيء رغم إرادته كالصراخ مثلا في الاجتماع!!

على من يقع اللوم؟

وبدل أن يجد هذا الإنسان نفسه في حالة اجتماعية طبيعية سوية هادئة، يصبح عرضة للكيل له بكل الأوصاف والتهم العديدة، أقلها المعقد، المتزمت، المغرور، المفصوم، المتكبر، المتشدد…!! فيجد نفسه مشلول الإرادة والتفكير ويتخبط في مستنقع من العذاب ليس له قرار، عاجز عن اغتنام فرصة وجوده في بلد ربما فيه كل شيء متاح وميسر لمن أراد أن يستفيد ويتطور ويبني نفسه. فتارة يكون مستسلما خانعا إلى درجة استعظام الآخرين وتقديسهم واستصغار نفسه أمامهم، وتارة متمردا غاضبا كصعلوك شرير حاقد على نفسه وعلى ما حولها وعلى الدين! وقد كان ظنه بالله حسنا،

ولكن المرارة التي يعيشها تجعله يقول إن الله خيب ظنه فيلوم الله كما يلوم إنسانا عاديا!!! وطبعا يترك الصلاة ويهجر القرآن تمردا!! بعدما كان متمسكا بهما وكان ذلك ديدنه، وأصبح الدِّين يغيظه والشك يطارده! بل ويتهم طريقة تربيته التي ربما كانت دينية على الخلق والمبادئ والقيم، ويبدأ يشك أن ذلك قد يكون السبب في معاناته.فيقول مثلا: “ماذا جلب لي الخلق والأدب غير التعاسة والمعاناة في حين أرى أن الفاجر البذيء والمنافق الكذاب أو الفاسق أكثر ثقة بنفسه مني وأكثر نجاحا وأتم صحة وأوفر حظا!”، وعندما يراقب نفسه يجد أنه فاشل في كل شيء وعلى كل الصعد، الاجتماعي والعلمي (رغم الشهادات) والعاطفي والصحي النفسي والجسدي الذي يتداعى كبيت خرب، في حين يتمتع الفاتك اللهج بكل الطيبات!!.

الخروج من حالة الاكتئاب الجسيم

إن مثل هذه الحالة أو الحالات صورة نموذجية يطلق عليها علماء النفس عدة مصطلحات مثل: الاكتئاب الجسيم أو الطموح المكبوت وعسر المزاج أو الاكتئاب المتلصص والفشل المظلوم.. وتظهر بعض علامات الاندفاعية Impulsivity في هذه الحالة، خاصة في مسألة اللجوء إلى العادة السرية. وهذه العلامات على الاندفاعية في مريض الاكتئاب بصورة خاصة عندما تواتيه أفكار أو تخيلات الانتحار. وهذه الحالة ربما تستدعي العلاج بالصدمات الكهربية، والرأي الأول والأخير سيكون للطبيب المعالج.

ولعل أهم نقطة في هذه الحالة هي الكيفية التي تأثير الاكتئاب على التدين، فبالتدريج يشعر الإنسان بنقص الإيمانيات، ويظهر كيف أن الاكتئاب يسلب الإيمان، ويحمل المريض على اليأس من رحمة الله؛ لذلك لا يجوز أن يستسلم الإنسان له. يقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)، وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62).