أحيانًا يجد الإنسان نَفْسَه وقد ضاقتْ عليه، حتى لا يكاد يجد مَنْفذًا لِنَفَسِه! وتكاثرت عليه الهموم، وتداخلت الأفكار، وفترت همته.. بحيث لا يجد قدرة على التركيز في عمل واحد، أو لا يجد من نفسه أصلاً إقبالاً على أيِّ عمل.. وقد تستمر هذه الحالة مغلفة بشيء من الحزن والملل، أو اليأس والقنوط.. وهو إنْ استسلم لذلك، ولم يحاول أن يسلك ما يخفف عنه هذه الهموم؛ فإنه قد يتردَّى في مهاوٍ لا نهاية لها من الجزع، والقنوط من رحمة الله ، وفقدان الثقة بالذات، وانعدام الأمل في لحظة أفضل.

 

وهذه الحالة من تقلّب المشاعر وفتور الهمة؛ قد تعتري أيَّ إنسان مهما أُوتي من رجاحة العقل، وقوة الإرادة، والثقة بالنفس.. فإنَّ القلوبَ أسرع تقلبًا من القِدْر إذا استجمعتْ غليانًا، كما جاء في الحديث الشريف([1]).

غير أن اختلاف الناس وتفاوتهم – إزاء هذا التقلب والتأرجح- يكمن في القدرة على تدارك الذات، وانتزاعها من الحلقة المفرغة، والخروج بها من هذه الحالة العارضة؛ حتى لا تكون تلك الحالة طبعًا متأصلاً، وسلوكًا معتادًا.. لأنها يجب أن تظل استثناءً يثبت استقرار النفس واتزانها..

وفي رأيي، فإن السبب الرئيسي الذي يمكن أن يكون من وراء هذه الحالة- غير السويَّة- هو الفراغ، خاصة إذا كان في المراحل العمرية الأولى للإنسان؛ حيث عقله لم ينضج بعد، وخبراته ما زالت ضعيفة، وإرادته رخوة لا تستطيع أن تقوى على مواجهة العقبات والصعاب.

فالقليل مِن الناس- بوجه عام- مَن يستطيع أن يستثمر فراغه، ويملأه حركةً ونفعًا لذاته، أو للآخرين من حوله.. وأغلبهم يرى الفراغ عبئًا يحاول التخلص منه ولو أن يعمل السيئات، أو ينشغل- على الأقل- بعمل لا طائل من ورائه!

ولذلك ذكر النبي أن الفراغ قد يكون نعمة وقد يكون نقمة، وأن معظم الناس يغفلون عن رؤية ما في الفراغ من فوائد وإمكانات مُهْدرة؛ فقال : “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ”([2]).

والإنسان العاقل حين يشعر بأن بوادر هذه الحالة بدأت تتسرب إليه؛ فإنه سرعان ما يحاول أن يملأ نفسه وقلبه وعقله ووقته بما يطرد عنه الملل والحزن.. كأنْ ينشغل بعمل لا يحتاج إلى كثير من التركيز- مثل ترتيب المكتبة، أو قراءة الصُّحف- أو يخرج إلى متنـزه، أو يمشي قُبيل الغروب بين الحقول النضرة والماء الجاري، أو يذهب لزيارة صديق حبيب.. فلا يترك الملل والحزن يتمددان في فراغه.

كذلك، فإن على المسلم أن يكثر من ذكر الله، والاستعاذة به من حديث النفس ووساوس الشيطان، والمحافظة على الوضوء، ولزوم الاستغفار، ودوام التسبيح، وبذل الخير للناس وقضاء حوائجهم.. فإن ذلك مما يطرد الشيطان، ويشرح الصدر، ويعافي النفس، ويُطمئن القلب، ويجدِّد النشاط، وفوق ذلك يملأ الفراغ بالصالح من الأعمال، ويحوِّله إلى (وعاء) للخير والفضائل: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 200، 201).

إن تأرجح النفس البشرية بين حالات متناقضة- كما أشرنا توًا- يؤكد من منظور أوسع، حاجة تلك النفس إلى الخلود إلى الراحة بين الفينة والأخرى، وإلى حسن تنظيم الوقت- حتى في أوقات الفراغ!- لأنها تحتاج إلى اللهو المباح حاجتها إلى العمل الجاد؛ فهي لا تستقيم على وتيرة واحدة بل تحب التنوع والترويح؛ ولذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إنه هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فالتمسوا لها من الحكمة طرفًا”، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا أفاض في القرآن والسّنن، قال لمن عنده: “أحمضوا بنا”([3]). أي: خوضوا في الشعر والأخبار وما يروِّح عن النفس.

وقد وضع لنا عبد الله بن مسعود دستورًا لسياسة النفس، ومراعاتها في أحوالها المختلفة وتقلباتها المتعددة، وبيَّن أن ما يصلح لها في حالة قد لا يصلح لها في حالة أخرى، إذ يقول: “إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفَتْرة وإدبارًا؛ فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها”([4]). أي في حال الإقبال والنشاط أكثروا لها من الأعمال، مهما كانت الأعمال محتاجة إلى جهد وتعب؛ أما في حال الفتور والخمول فالأَوْلى الاقتصار على الضروري من الأعمال، وتأجيل ما يمكن تأجيله إلى حال النشاط والجد.

ولئن كان العمل المتتابع قد يصيب البدن ببعض الوهن، الذي يمكن البرء منه بقليل من الراحة.. فإن الفراغ يصيب القلب بأمراض وعِلَلٍ، هي أشد فتكًا بالإنسان من أمراض البدن؛ والبرء منها يكون عسيرًا وبعيد المنال!!

ولذلك كانت الوقاية خيرًا من العلاج؛ وبالتالي فإن على الإنسان أن يشغل وقته وقلبه بما يعود بالنفع عليه وعلى من حوله.. وعليه أيضًا أن يأخذ نفسه بما يناسبها؛ تارة باللين، وأخرى بالحزم.. وبهذا ينجح في أن يقتل الفراغ قبل أن يقتله!!


([1]) عن المقداد بن الأسود قال: مَا آمَنُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: “لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا” (أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح: ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني).

([2]) رواه البخاري عن ابن عباس.

([3]) “فتح المغيث شرح ألفية الحديث، السخاوي، 2/ 313.

([4]) “الآداب الشرعية والمنح المرعية”، ابن مفلح، 2/ 74.