حسب الباحثين في الاقتصاد الإسلامي فإن مفهوم آثار الفقر يدور حول الحرمان من إشباع الحاجات الإنسانية اللازمة للمعيشة، فلقد جاء في الفقه الإسلامي أن الفقير هو: “من لا مال له ولا كسب يكفي متطلباته الضرورية”. ولكن كيف يؤثر الفقر على حياة الإنسان؟ هل يبدأ ذلك منذ الطفولة أو في فترات معينة، وماهي الأوجه التي يؤثر فيها، وهل يؤثر الفقر مثلا في الدماغ البشري؟

إذا أردنا تعريف الفقر يمكن أن نقول أنه “هو الحالة أو الوضع الذي يحتاج فيه الفرد أو المجتمع إلى الموارد المالية، والأسس الضرورية للتمتُع بأدنى مستوى من الحياة والرفاهية الذي يعتبر مقبولا في المجتمع الذي يعيش فيه”، أما المعيار الدولي للفقر المدقع فهو حصول الفرد على أقل من دولار واحد في اليوم، وهو أيضا عندما يفشل دخل الأسرة في تلبية الحاجات الأساسية لأفراده، ويقاس الفقر عادة بناء على الأسرة التي تعيله وليس الفرد.

الفقر صفة أم حالة؟

الفقر ليس صفة بل هو حالة يمر بها الفرد تبعا لمعايير محددة، فمثلا يعرف الفقر بمفهومه العام علي انه انخفاض مستوى المعيشة عن مستوى معين ضمن معايير اقتصادية واجتماعية. وعرف بشيء من التفصيل على “أنه الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحية والغذاء والملبس والتعليم وكل ما يُعد من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق في الحياة”.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين كثر الحديث عن الفقر والفقراء في أدبيات الأمم المتحدة بالتوسع من الظاهرة الاجتماعية في المجتمع الواحد إلى الظاهرة العالمية بتصنيف البلدان إلى غنية وفقيرة وبتحديد مقاييس ومؤشرات الفقر في مستوى البلدان وكذلك الأفراد مع مراعاة النسبيّة، فالفقير في اليمن لا يُقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقير في أمريكا الشمالية.

يختلف مفهوم آثار الفقر باختلاف البلدان والثقافات والأزمنة ولا يوجد اتفاق دولي حول تعريف الفقر نظرا لتداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل ذلك التعريف وتؤثر عليه، إلا أنه هناك اتفاق بوجود ارتباط بين الفقر ولإشباع من الحاجات الأساسية المادية أو غير المادية، وعليه فهناك اتفاق حول مفهوم الفقر عموما.

ويعرف البنك الدولي الدول الفقيرة أو منخفضة الدخل بأنها تلك الدول التي ينخفض فيها دخل الفرد عن 600 دولار أمريكي سنويا وعددها 45 دولة معظمها في أفريقيا، منها 15 دولة يقل فيها متوسط دخل الفرد عن 300 دولار سنويا (أي ما يعادل 0.8 دولار يوميا). برنامج الإنماء للأمم المتحدة يضيف معايير أخرى تعبر مباشرة عن مستوي رفاهية الإنسان ونوعية الحياة “Livelihood” هذا الدليل وسع دائرة الفقر بمفهوم نوعية الحياة لتضم داخلها 70 دولة من دول العالم، أي هناك حوالي 45% من الفقراء يعيشون في مجتمعات غير منخفضة الدخل، أي هناك فقراء في بلاد الأغنياء، ويكتفي هنا بذكر أن 30 مليون فرد يعيشون تحـت خط الفقـر في الولايات المتحدة الأمريكية (15 % من السكـان).

انتشار الفقر وآثاره

آثار الفقر خطيرة، فعلى سبيل المثال الأطفال الذين ينشئون في بيئة فقيرة يعانون من مشاكل صحية بشكل مستمر ومتكرر أكثر من الأطفال الذين ينشؤون في ظل ظروف مالية أفضل، فالعديد من الأطفال الرضع المولودين في أُسر فقيرة لديهم وزن منخفض عند الولادة، وهذا يرتبط بالعديد من المشاكل الجسدية والإعاقات العقلية التي يمكن الوقاية منها، كما يمكن أن يكونوا أكثر عرضةً للموت قبل إتمامهم عامهم الأول. كما أن الأطفال الذين ينشؤون في بيئة فقيرة يميلون إلى التغيب عن المدرسة في كثير من الأحيان بسبب المرض، ولديهم أيضا نسبة أعلى بكثير من الإصابات من الأطفال الآخرين، فقد يكون لديهم ضعف في الرؤية، والسمع، وفقر الدم بسبب نقص الحديد، ومستويات عالية من الرصاص في الدم، والتي يمكن أن تُضعف وظيفة الدماغ.

وتضم دائرة الفقر مليار فرد في العالم بعد الهند والتي يقل فيها دخل الفرد عن 600 دولار سنويا، ومنهم 630 ملـيون في فقر شـديـد (حيث متوسط دخل الفرد يقل عن 275 دولار سنويا)، وإذا أتسعت الدائرة وفقا لمعايير التنمية البشرية لشملت 2 مليار فرد من حجم السكان في العالم البالغ حوالي 6 مليار فرد، منهم مليار فرد غير قادرين على القراءة أو الكتابة، 1.5 مليار لا يحصلون علي مياه شرب نقية، وهناك طفل من كل ثلاثة يعاني من سوء التغذية، وهناك مليار فرد يعانون الجوع، وحوالي 13 مليون طفل في العالم يموتون سنويا قبل اليوم الخامس من ميلادهم لسوء الرعاية أو سوء التغذية أو ضعف الحالة الصحية للطفل أو الأم نتيجة الفقر أو المرض.

الفقر والدماغ البشري

أظهرت دراسة غير مسبوقة في بنغلادش تأثير سوء التغذية وسوء الصرف الصحي والصعوبات الأخرى في نمو الأطفال. حيث بدأ فريق من الباحثين في أواخر الستينيات بتوزيع مكمل غذائي للعائلات التي تملك أطفالا صغارا في ريف غواتيمالا ليختبروا هل يؤدي توفير البروتين الكافي في سنوات الطفل الأولى إلى الحد من وقف النمو؟

تبين أن الأطفال الذين حصلوا على المتمم الغذائي ازداد طولهم 1 – 2 سم مقارنة بالمجموعة المرجعية، ولم تكن هذه الفائدة الوحيدة، إذ تبين أنهم حققوا نتائج أعلى في اختبارات القراءة والمعرفة في أثناء المراهقة، وبعودة فريق البحث إلى بداية عام 2000، وجدوا أن الأشخاص الذين حصلوا على المتمم الغذائي في السنوات الثلاث الأولى من حياتهم من النساء قد تفوقن على غيرهن في سنواتهن الدراسية، في حين حقق الرجال دخلًا أعلى من غيرهم.

منذ إجراء هذا البحث، ربطت الدراسات التي أجريت حول العالم وقف النمو عند الأطفال بتدني النتائج في الاختبارات المعرفية وسوء التحصيل الدراسي.

ومن آثار الفقر أيضا ما كشفت عنه فحوصات الدماغ عن وجود نشاط عصبي أقوى عند الأطفال المصابين بوقف النمو، إضافةً إلى مدى واسع من الموجات الدماغية التي تعمل على حل المشكلات والتواصل بين مناطق الدماغ المختلفة، وأظهرت نتائج الأبحاث وجود نشاط عصبي متدن عمومًا عند الأيتام والأطفال الفقراء، قد يرتبط هذا الاختلاف بأنواع مختلفة من الصعوبات التي يعانيها الأطفال.

وكشفت دراسة أن الفقر في مرحلة الطفولة يؤثر على وظائف الدماغ عند البلوغ، حيث لاحظ الباحثون وجود نشاط أكبر من الطبيعي في منطقة اللوزة المخية المسؤولة عن مشاعر كالخوف والمشاعر السلبية، ونشاط أقل من المعتاد في منطقة الفص الجبهي التي يعتقد أنّ لها علاقة بالمشاعر السلبية بشكل عام. بل أن دراسة أخرى كشفت سبب كون الفقراء أكثر عرضة للاصابة بأمراض القلب، فكلما قل المستوى المالي تزداد احتمالات الإصابة بأمراض القلب، ما يُعزى لكون الفقراء لا يحصلون على قسط وفير من النوم.

الإسلام يكره الفقر

وفي مجتمعاتنا الإسلامية، نجد أن الإسلام حارب الفقر بكل قوة، وحث على الارتقاء بالمستوى المعيشي للفرد، وعلى المساواة بين جميع طبقات المجتمع، فلا فرق بين أبيض على أسود إلا بالتقوى، وتضمن منهجه العديد من الأطر التي تلزم الغني بمساعدة الفقير، بل وألزم الدولة بسد حاجة الفقراء، ودفع ديونهم عنهم إذا اقتضت الضرورة ذلك، ولم يمدح الإسلام الفقر لا في آية ولا حديث، بل إنه حذر من الفوارق الطبقية بين أفراد الأمة، بحيث تعيش منها جماعة في مستوى الترف، وتعيش أخرى في “ضنك”.

والرسول صلى الله عليه وسلم تعوذ من الفقر في أدعيته كثيرا، فكان يقول في الصلاة: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ”، كما كان يردد في دبر كل صلاة: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ.

وآثار الفقر المدقع يسبب خللا واضطرابا في عقيدة المسلم،كما ورد في الأثر “كاد الفقر أن يكون كفرًا”، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقولته الشهيرة “لو كان الفقر رجلا لقتلته”، وقديما كانوا يقولون: “إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك”، كما أن الفقر من الممكن أن يكون خطرا على الفكر الإنساني، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “لا يقض القاضي بين اثنين وهو غضبان”.

وقد حمل الفقهاء على هذا الحديث، ثلاثًا وثلاثين حالة، أحدها الجوع الشديد، الجوع الشديد يجعل الفكر يضطرب. وقد ورد عن بعض الأئمة الكبار قوله: “لا تستشر من ليس في بيته دقيق”.

والفقر خطر على الأسرة نفسها، قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾[سورة الأنعام: 151].

وللقضاء على آثار الفقر ومحاربته، وضع الإسلام منهجا قويا ملزما لكل مسلم، في التعاون ومساعدة الغير ودفع الزكاة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. وقد جعل الله تعالى للفقراء نصيبًا في الزكاة، ويُعطى الفقير حتى يغتني، ويزول فقره، قال تعالى: ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة/60 ، وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) المعارج/24 ، 25.

كما حث الإسلام على الصدقات وكفالة الأيتام والأرامل، قال تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” سورة التغابن الآية 16.

من جهة أخرى، تعالت أصوات بالدعوة إلى الزهد عن الدنيا، وترك المال، وتحبيب الفقر إلى النفوس، لكن الاسلام ينكر أشد الإنكار النظرة التقديسية للفقر، بل يجعل الغنى نعمة يمتن الله بها على عباده، ويطالب بشكرها، ويجعل الفقر مشكلة يُستعاذ بالله منها، وهو الذي يقول في القرآن الكريم: “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى” [سورة الضحى: 6-8]