من المشتهر بين أهل التاريخ والسير أن النبي ﷺ كان جنينا في بطن أمه حين مات والده، وهذه هي الرواية الأولى، ويستدل أصحابها عليها بقوله تعالى، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}، وقد قيل إن عبد الله بن عبد المطلب والد النبي ﷺ مات في المدينة حين أرسله أبوه ليأتي به بتمر يبتاعونه، وقيل: بل أرسله إلى تجارة بالشام، لكنه مر على المدينة فمات فيها، وحين أرسل أبوه عبد المطلب أخاه الحارث إليه حين سمع بمرضه بالمدينة، فذهب أخوه الحارث إلى المدينة، فوجده قد توفي ودفن هناك.
الرواية الثانية – لكن هناك رواية أخرى، تقول: إن والد النبي عبد الله بن عبد المطلب مات والرسول ﷺ في المهد، وقد نقل البرزنجي والسهيلي أن عمر النبي حين مات أبوه كان شهرين، ونقل الشيخ عليش المالكي أن عمره كان سبعة أشهر حين مات، ونقل السهيلي رواية تذكر أن عمر النبي ﷺ كان ثمانية وعشرين عاما، وهي أبعد الروايات صحة.
والصواب أن والد النبي ﷺ مات وهو جنين في بطن أمه، ورواية من قال مات وللنبي شهران، أن للنبي شهرين وهو في بطن أمه، فقد مكث عبد الله عند آمنة عشرة أيام بعد الزواج في بيته، ثم سافر، وقد أتى خبر وفاته بأقل من شهرين، مما يعني أن النبي ﷺ كان جنيا في بطن أمه في شهرين.
وبعد علم آمنة بوفاة زوجها حزنت حزنا شديدا، ورفضت الخروج من بيت عبد الله، وحبست نفسها لا تريد رؤية أحد من البشر، وتكاد تكون قريش كلها حزينة على فقد فتاها المفدى..
وفي أثناء ذلك، جاء عبد المطلب بن عبد الله إلى زوجته ابنه يطلب منها أن تتهيأ إلى الخروج للجبال مع نساء مكة، خشية أن يصيبهم أذى من ذلك الملك الظالم الذي نزل أرض العرب ليهدم الكعبة قادما من الحبشة.
فزاد الحزن على آمنة، فهي تريد أن تلد ولدها في بيت أبيه، ولم يمنعها ما بها من الحزن أن تسأل عبد المطلب عما جرى بينه وبين أبرهة، فأخبرها أنه أرسل إليه حناطة الحميري ليخبر عبد المطلب أنه ما جاء للحرب، فإن أراد عبد المطلب حربا حاربه أبرهة، وإن أراد سلما، فليقابل أبرهة ليكلمه.
وأخبرها عبد المطلب أنه رد على رسول أبرهة أنه لا طاقة له بالحرب هو وعشيرته، فأخذه إلى أبرهة ليقابله، وهناك أحسن أبرهة استقباله، وأراد أن يجلسه على سرير الملك، لكنه جلس على الأرض مع عبد المطلب، وأخبره أبرهة أنه إنما جاء ليقصد البيت، وأنه آمن هو وعشيرته وأهل مكة من بطش جنوده إن خلوا بينه وبين البيت.
ففاجأه عبد المطلب أنه ما جاءه ليكلمه عن البيت، وإنما يكلمه عن إبل أخذها جنود أبرهة. فتعجب أبرهة غضبا: وقال له: جئت تكلمني في إبل، ولا تكلمني في شأن البيت..
فأجابه: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت، فله رب يحميه… وعاد عبد المطلب بإبله. وقد عرض سيد هذيل ثلث تهامة على أبرهة مقابل رجوع أبرهة، لكنه أبى إلا هدم الكعبة.
ويبدو أن أبرهة غرر به، لما رأى من توافد العرب على الكعبة وما يجبيه أهلها مما يدفعه الحجيج، وهو دلالة على خطر المشورة، وتخير الإنسان مستشاريه، فقد كان أبرهة ملكا صاحب سلطان، لكن الطمع أغراه بما كانت فيه نهايته.
مناجاة عبد المطلب
وعاد عبد المطلب من عند أبرهة ذاهبا إلى بيت الله الحرام يلوذ برب البيت أن يحمي بيته من هذا الحاكم الظالم، وأنشد قائلا:
لَاهُمَّ إن المرء يم … نع رحله فامنع حلالك
جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
إن كنت تاركهم وكع … بتنا فأمر ما بدا لك
يا رب لا أرجو لهم سواكا … يا رب فامنع منهم حماكا
امنعهم أن يخربوا قراكا … إن عدو البيت من عاداكا
فردت آمنة: يا رب لا أرجو لهم سواكا.
لكن هل يعقل أن عبد المطلب لم يفكر في قتال من جاء ليهدم البيت الحرام؟
والجواب: إن عبد المطلب كان رجلا حكيما، فسيد قومه ما يوردهم المهالك، فقد أدرك أن القتال لا يجدي نفعا وهم قبائل أمام هذا الجيش الضخم الذي يستخدم فيه الفيلة..
الأمر الآخر: ثقة عبد المطلب أن رب البيت سيحميه، وأنه ما قصد أحد البيت بسوء إلا أهلكه الله تعالى.
ومكثت آمنة في بيتها يشدوها الأمل في أن تلد وليدها في بيت أبيه، لكنها سلمت أمرها لله في الخروج للجبال، وجاء الصباح ولم يأتها أحد للخروج، ثم جاءها من يبشرها في ذلك اليوم بأن الله تعالى أهلك أبرهة وجيشه، وأنهم هلكوا في وادي محسر، وأن أبرهة ما قرب للكعبة، بل هلك بعيدا عنها، فكادت أن تطير فرحا، وخفف ذلك من آلامها وأحزانها، واطمأنت أن أمنيتها في ولادة ابنها في بيت أبيه تكاد تتحقق.
وطار أهل مكة نحو البيت الذي أنجاه الله من بطش أبرهة الظالم، وأخذوا يصلون لله عند البيت، ويحمدونه على حماية بيته، وأخذوا ينشدون:
تنكَّلوا عَنْ بطنِ مكةَ إنَّهَا … كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرامُ حريمُها
سائلْ أميرَ الجيشِ عَنْهَا مَا رَأَى … ولسوفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عليمُها
ستونَ أَلْفًا لَمْ يَئُوبوا أرضَهم … وَلَمْ يَعِشْ بعدَ الْإِيَابِ سقيمُها
وإن كان البيت له مكانة عظيمة في نفوس العرب، لكنه بلا شك أن مكانة البيت زادت بعد هلاك أبرهة الحبشي وجيشه، وأن حكمة عبد المطلب جعلت العرب يثقون فيه أكثر، ويسلمون له بالريادة والقيادة، فالقائد الحكيم هو الذي يحمي أهله من الهلاك بحكمته، ويعرف متى يكون الحرب ومتى يكون السلام.
وصلت آمنة لرب البيت شكرا على ما رزقهم من نعمة الأمن، ولعظيم هذا الحدث فقد خلده الله تعالى في سورتين ، هما: سورة الفيل، وسورة قريش، فكانت السورة الأولى بمثابة سجل تاريخي يحفظ الحدث، وكانت السورة الثانية بمثابة العبرة التي يجب على العرب أن يعوها من حفظ الله تعالى لهم بالإطعام والأمن، وهما أشد ما يحتاجهما الناس، فإن أمن الناس على أنفسهم، ووجدوا حاجاتهم الأساسية من الطعام والشراب، فهم في نعمة كبرى.