جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وهذه الوصية رويت بطرق مختلفة عن الصحابة رضوان الله عليهم تشهد لمكانة هذه الأمور العظيمة التي يجب على المسلمين رعايتها، ولهذه الأهمية جاء ذكره في كتاب الأربعين النووية.

وفي حديث أبي هريرة، «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق» خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.

قال ابن رجب عن هذا الحديث أنه وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده، وبين أوجه هذه الحقوق التي تعد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.

الوصية الأولى: التقوى وهو حق الله تعالى على عباده، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] . وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.

قال ابن رجب: وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل، كقوله تعالى: {واتقوا الله الذي إليه تحشرون} [المائدة: 96]، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [الحشر: 18]، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يتقى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي.

وكان التقوى وصية الله تعالى لجميع خلقه، ووصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا. ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم. ولما وعظ الناس، قالوا له: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة»

ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبته: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: 90].

وكتب عمر إلى ابنه عبد الله: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك. واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على سرية، فقال له: أوصيك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين.

الوصية الثانية: “أتبع السيئة الحسنة تمحها”، وذلك أن العبد لما كان مأمورا بالتقوى في السر والعلانية مع أنه لابد أن يقع منه أحيانا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره بأن يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة، قال الله عز وجل: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114] .

وفي ” الصحيحين ” عن ابن مسعود «أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: ” بل للناس عامة» .

وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية في قوله عز وجل {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين – الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين – والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون – أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} [آل عمران: 133 – 136].

وقد يراد بالحسنة في الحديث (أتبع السيئة الحسنة تمحها) التوبة من تلك السيئة قال سلمان: إذا أسأت سيئة في سريرة، فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية، فأحسن حسنة في علانية، لكي تكون هذه بهذه وهذا يحتمل أنه أراد بالحسنة التوبة أو أعم منها. وقد أخبر الله في كتابه أن من تاب من ذنبه، فإنه يغفر له ذنبه أو يتاب عليه.

وذلك في مواضع كثيرة، كقوله تعالى {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم} [النساء: 17] ، وقوله: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [النحل: 119]. وقوله {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70] وقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82].

وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، قال: هو سعة الإسلام، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة.

قال ابن رجب الحنبلي معقبا على هذه الآيات: وظاهر هذه النصوص يدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله توبته، كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاما صحيحا، وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع. [«جامع العلوم والحكم» (1/ 418)].

وقد يراد بالحسنة في «أتبع السيئة الحسنة تمحها» ما هو أعم من التوبة، كما في قوله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] [هود: 114] ، وقد روي من حديث معاذ أن الرجل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي.

جاء في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] [آل عمران: 135] .

وفي ” الصحيحين ” «عن عثمان أنه توضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه».

وفي ” الصحيحين ” عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» .

وفيهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .

وفي ” صحيح مسلم ” عن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله».

وفي ” الصحيحين ” عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».

وفيهما عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك».

هل العمل الصالح يكفر الكبائر والصغائر؟

والسؤال هنا هل العمل الصالح أو الأعمال الصالحة تكفر الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر؟
فقد اختلف السلف في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: يرى أن العمل الصالح لا يكفر سوى الصغائر، وقد روي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر، وقال سلمان الفارسي في الوضوء: إنه يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المساجد يكفر أكبر من ذلك، والصلاة تكفر أكبر من ذلك. خرجه محمد بن نصر المروزي. وأما الكبائر، فلابد لها من التوبة، لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالما، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع.
القول الثاني: أن الأعمال الصالحة تكفر الصغائر مطلقا، ولا تكفر الكبائر وإن وجدت، لكن بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها.
قال ابن رجب: وقوله: بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها، مراده أنه إذا أصر عليها، صارت كبيرة، فلم تكفرها الأعمال.
ودليل ذلك ما جاء في ” صحيح مسلم ” عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله».

وقال ابن مسعود: الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. وقال سلمان: حافظوا على الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراح ما لم تصب المقتلة. وقال ابن عمر لرجل: أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟ قال: نعم، قال بر أمك، فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات.

القول الثالث: وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر، ومنهم ابن حزم الظاهري، وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب ” التمهيد ” بالرد عليه وقال: قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب، لولا قول ذلك القائل، وخشيت أن يغتر به جاهل، فينهمك في الموبقات، اتكالا على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة، والله نسأل العصمة والتوفيق.

واستدلوا بأن السيئات تشمل الكبائر والصغائر، وكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية، فكذلك الكبائر. وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وتكفير السيئات، وهذا مذكور في غير موضع من القرآن، وقد صار هذا من المتقين، فإنه فعل الفرائض، واجتنب الكبائر، واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد، فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة.

قال ابن رجب: والصحيح قول الجمهور بأن الكبائر لا تكفر بدون التوبة، لأن التوبة فرض على العباد، وقد قال عز وجل: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11] وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم، ومنهم من فسرها بالعزم على أن لا يعود.